الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٥ الصفحة 10

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٥

عَلَى إِجْزَاءِ الْكَفَّارَةِ قَبْل الْحِنْثِ (١) .

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْل بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَكَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْعَوْدِ، وَالْقَتْل الْخَطَأُ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْل الْمَوْتِ كَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قَبْل الْحِنْثِ، لأَِنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ سَبَبِهِ فَجَازَ (٢) .

وَبِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمَّا كَانَ يُحِلُّهُ الاِسْتِثْنَاءُ وَهُوَ كَلاَمٌ، فَلأَِنْ تُحِلَّهُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ فِعْلٌ مَالِيٌّ أَوْ بَدَنِيٌّ أَوْلَى (٣) .

وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْل الْحِنْثِ: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ﴾ (٤) مَعَ قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ (٥) .

وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْحِنْثِ وَلَيْسَتْ لِلْيَمِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الأَْوَّل: تَصْوِيرُهُ فِي صَدْرِ الآْيَةِ نَفْيُ مُؤَاخَذَتِنَا عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَأَنَّهُ ﷾ يُؤَاخِذُنَا بِمَا عَقَّدْنَا مِنَ الأَْيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا، كَقَوْلِهِ ﷿: ﴿وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ (٦)، فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ

_________

(١) فتح الباري ١١ / ٦١٦، وصحيح مسلم بشرح النووي ١١ / ١١٢.

(٢) فتح الباري ١١ / ٦١٧، وكشاف القناع للبهوتي ٦ / ٢٤٤.

(٣) فتح الباري ١١ / ٦١٧.

(٤) سورة المائدة / ٨٩.

(٥) سورة المائدة / ٨٩.

(٦) سورة النحل / ٩١.

فَكَفَّارَتُهُ كَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ تَقْدِيرُهُ: أَيْ فَتَرَكْتُمُ الْمُحَافَظَةَ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَال ﷿: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ (١)، وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ الْحِنْثِ، أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ، وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾، أَيْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ (٢)، مَعْنَاهُ: فَحَلَقَ عَامِدًا أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ. وَقَوْلُهُ ﷿: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ (٣)، مَعْنَاهُ: فَتَحَلَّل. وَقَوْلُهُ ﷿: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (٤)، فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، لأَِنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَال الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا لاَ تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ جَل جَلاَلُهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ

_________

(١) سورة المائدة / ٨٩.

(٢) سورة البقرة / ١٩٦.

(٣) سورة البقرة / ١٩٦.

(٤) سورة البقرة / ١٨٤.

التَّكْفِيرِ، فَيَجِبُ إِضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ (١) .

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ (٢) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا (٣) .

وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَال ﵊: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ " مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَأَلْزَمَ الْحِنْثَ إِذَا كَانَ خَيْرًا ثُمَّ التَّكْفِيرَ. فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنَ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ، عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا لاَ تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ (٤) .

_________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٢ / ٢٧٤ وما بعدها.

(٢) حديث: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها. . . ". أخرجه مسلم (٣ / ١٢٧٢) من حديث أبي هريرة.

(٣) حديث: " إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ١١ / ٦٠٨)، ومسلم (٣ / ١٢٧٠) من حديث أبي موسى الأشعري.

(٤) بدائع الصنائع ٣ / ١٩، والمبسوط ٨ / ١٤٧، ١٤٨، والبحر الرائق ٤ / ٣١٦.

وَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ التَّكْفِيرُ قَبْل الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَال أَوْ بِالصَّوْمِ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلاَ جِنَايَةَ، وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ، لأَِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنَ الْحِنْثِ غَيْرُ مُفْضِيَةٍ بِخِلاَفِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْل الْمَوْتِ لأَِنَّهُ مَفْضِيٌّ (١) .

ثَانِيًا: الْقَتْل:

١٤ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ.

وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَالْقَتْل بِسَبَبٍ.

الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ

١٥ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل: عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (٢) .

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، وقَوْله تَعَالَى:

_________

(١) البحر الرائق ٤ / ٣١٦.

(٢) تبيين الحقائق ٦ / ٩٩، ١٠٠ - المطبعة الأميرية الكبرى، والمبسوط ٢٥ / ٦٧، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل ٦ / ٢٦٨، والمغني ٨ / ٩٦، والجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٣١.

٠٠ ﴿وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ .

وَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الآْيَتَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ ﷿ أَوْجَبَ فِي الآْيَةِ الأُْولَى كَفَّارَةَ الْقَتْل الْخَطَأِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الآْيَةِ الثَّانِيَةِ الْقَتْل الْعَمْدَ، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً، جَعَل جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ، فَلَوْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَذَكَرَهَا، فَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ فِيهِ (١) .

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ ﵁ قَتَل رَجُلًا، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً (٢) .

وَقَالُوا: إِنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْل فَلاَ يُوجِبُ كَفَّارَةً، كَزِنَا الْمُحْصَنِ (٣)، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ لِتَعَلُّقِ الْعِبَادَةِ بِالْمُبَاحِ وَالْعُقُوبَةِ بِالْمَحْظُورِ، وَقَتْل الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، فَلاَ تُنَاطُ بِهِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، مِثْل الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا، وَلِعَدَمِ جَوَازِ قِيَاسِهِ عَلَى الْخَطَأِ، لأَِنَّهُ دُونَهُ فِي الإِْثْمِ، فَشَرْعُهُ لِدَفْعِ الأَْدْنَى لاَ يَدُل عَلَى دَفْعِ الأَْعْلَى،

_________

(١) المغني ٨ / ٩٦.

(٢) حديث: " إن الحارث بن سويد بن الصامت قتل رجلًا. . . ". أورده ابن سعد في الطبقات (٣ / ٥٥٣) دون إسناد.

(٣) المغني ٨ / ٩٦.

وَلأَِنَّ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَعِيدًا مُحْكَمًا، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَال يَرْتَفِعُ الإِْثْمُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ مَعَ وُجُودِ التَّشْدِيدِ فِي الْوَعِيدِ بِنَصٍّ قَاطِعٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَمَنِ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ تَحَكُّمًا مِنْهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَلاَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ هُوَ كُل مُوجِبِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخًا، وَلاَ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ (١) .

الْقَوْل الثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ (٢) .

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ ﵁ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً، يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ (٣)، فَقَدْ أَوْجَبَ الرَّسُول ﷺ الْكَفَّارَةَ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ النَّارَ، وَلاَ تُسْتَوْجَبُ النَّارُ إِلاَّ فِي قَتْل الْعَمْدِ (٤)، فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ

_________

(١) تبيين الحقائق ٦ / ٩٩، ١٠٠، والجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٣١.

(٢) روضة الطالبين للنووي ٩ / ٣٨٠، والمغني ٨ / ٩٦.

(٣) حديث واثلة بن الأسقع: " كنا مع النبي ﷺ في غزوة تبوك. . . " أخرجه ابن حبان (الإحسان ١٠ / ١٤٥ - ١٤٦) والحاكم (٢ / ٢١٢) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(٤) مغني المحتاج ٤ / ١٠٧.

الْقَتْل الْعَمْدَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي قَتْل الْخَطَأِ مَعَ عَدَمِ الْمَأْثَمِ، فَلأَِنْ تَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَقَدْ تُغَلَّظُ بِالإِْثْمِ أَوْلَى، لأَِنَّهُ أَعْظَمُ إِثْمًا وَأَكْبَرُ جُرْمًا وَحَاجَةُ الْقَاتِل إِلَى تَكْفِيرِ ذَنْبِهِ أَعْظَمُ (١) .

الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ:

١٦ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (٢) إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْل قَدْ وَقَعَ عَلَى سَبِيل الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ.

وَلأَِنَّهُ قَتَل آدَمِيًّا مَمْنُوعًا مِنْ قَتْلِهِ لِحُرْمَتِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ (٣) . وَلأَِنَّ السَّبَبَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ، فَكَانَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ (٤) .

_________

(١) مغني المحتاج ٤ / ١٠٧.

(٢) مواهب الجليل ٦ / ٢٤٢، وحاشية الرهوني على شرح الزرقاني ٨ / ١٧، وروضة الطالبين ٩ / ٣٨٠، والمغني ٨ / ٩٣.

(٣) مغني المحتاج ٤ / ١٠٨.

(٤) مغني المحتاج ٤ / ١٠٨.

وَلأَِنَّ فِعْل الْقَاتِل سَبَبٌ لإِتْلاَفِ الآْدَمِيِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُهُ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَأَوْطَأَ دَابَّتَهُ إِنْسَانًا (١) .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَحَقُّقِ الْقَتْل، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَتْل بِالْمُبَاشَرَةِ، أَمَّا الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ، فَلَمْ يَسْتَنِدِ الْفِعْل إِلَيْهِ (٢) .

الْكَفَّارَةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ

١٧ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ أَوْ ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ بَطْنَ نَفْسِهَا، أَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً لِتُسْقِطَ وَلَدَهَا عَمْدًا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ.

وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينًا مَيِّتًا، بِعُدْوَانٍ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ (٣)، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾،

_________

(١) المغني لابن قدامة ٨ / ٩٣.

(٢) تبيين الحقائق ٦ / ١٤٢، ١٤٤.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٢٣، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ٢ / ٣٨١، ومغني المحتاج ٤ / ١٠٨، والمغني ٨ / ٩٦، وكشاف القناع ٦ / ٦٥.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ﷿ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي كُل قَتْلٍ خَطَأٍ دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ جَنِينٍ وَغَيْرِهِ، وَالْجَنِينُ مَقْتُولٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدْخُل فِي هَذَا الْعُمُومِ، لأَِنَّنَا حَكَمْنَا لَهُ بِالإِْيمَانِ تَبَعًا لأَِبَوَيْهِ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذَا النَّصِّ وَلاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ دَلِيلٌ آخَرُ وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدُ (١)، وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ وَبِذَلِكَ قَضَى عُمَرُ ﵁ (٢) .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْجَنِينِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى بِالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ (٣)، فَقَدْ قَضَى ﷺ بِالْغُرَّةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لَذَكَرَهَا، لأَِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، لأَِنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً، وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، لأَِنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَقَدْ عُرِفَ وُجُوبُهَا فِي النَّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ - وَالْجَنِينُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ - فَلاَ يَتَعَدَّاهَا، لأَِنَّ الْعُقُوبَةَ لاَ يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ.

وَإِنَّ الْجَنِينَ جُزْءٌ أَوْ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ، فَلاَ

_________

(١) كشاف القناع ٦ / ٦٦.

(٢) مغني المحتاج ٤ / ١٠٨.

(٣) حديث: " أن النبي ﷺ قضى بالغرة في الجنين ". أخرجه البخاري (فتح الباري ١٢ / ٢٤٧)، ومسلم (٣ / ١٣٠٩) من حديث أبي هريرة.

يَدْخُل تَحْتَ مُطْلَقِ النَّصِّ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ كُل الْبَدَل، فَكَذَا لاَ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، لأَِنَّ الأَْعْضَاءَ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، فَإِذَا تَقَرَّبَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَل لَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا صَنَعَ مِنَ الْجَرِيمَةِ الْعَظِيمَةِ.

وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَتْل غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِجَوَازِ أَنَّ الْحَيَاةَ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ، حَيْثُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلاَ سَلاَمَتُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَجِبُ بِتَحَقُّقِ الْقَتْل (١) .

تَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِل

١٨ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ وَاتِّحَادِ الْمَقْتُول عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى كُل مَنِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالثَّوْرِيُّ (٢) .

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَجَبَتْ لاَ عَلَى سَبِيل الْبَدَل عَنِ النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِهَا، لأَِنَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الْوَاحِدِ إِذَا انْفَرَدَ يَجِبُ عَلَى

_________

(١) تبيين الحقائق للزيلعي ٦ / ١٢٨، ١٤١، ١٤٣، وبدائع الصنائع ٧ / ٣٢٦.

(٢) بدائع الصنائع ٧ / ٢٥٢، والبناية شرح الهداية للعيني ١٠ / ٤٩، والجامع لأحكام القرآن ٥ / ٣٣١، ومغني المحتاج ٤ / ١٠٨، والمغني ٨ / ٩٥.