الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٠ الصفحة 14

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٠

سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (١) عَامٌّ فِي كُل مُصَلٍّ، وَلاَ تَسْقُطُ الْجَمَاعَةُ لِتَعَذُّرِ سَبَبِهَا فِي الْمَوْقِفِ، كَمَا لَوْ كَانُوا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامُهُمْ، قَال الْبُهُوتِيُّ وَتُصَلِّي الْعُرَاةُ جَمَاعَةً وُجُوبًا (٢) .

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ جَمَاعَتِهِمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا صَلَّوْا بِالْجَمَاعَةِ يَتَوَسَّطُهُمْ إِمَامُهُمْ، كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُمَا (٣) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ: وَيُرْسِل كُل وَاحِدٍ رِجْلَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ بَيْنَ فَخِذَيْهِ يُومِئُ إِيمَاءً (٤) .

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْعُرْيَانَ يُصَلِّي قَائِمًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَإِنِ اجْتَمَعَ الْعُرَاةُ الْعَاجِزُونَ عَنْ سَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ بِظَلاَمٍ لِلَيْلٍ أَوْ نَحْوِهِ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً كَالْمَسْتُورِينَ فِي تَقْدِيمِ إِمَامِهِمْ وَاصْطِفَافِهِمْ خَلْفَهُ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِظَلاَمٍ تَفَرَّقُوا لِلصَّلاَةِ وُجُوبًا وَصَلَّوْا فُرَادَى، وَإِلاَّ أَعَادُوا بِوَقْتٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَفَرُّقُهُمْ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسٍ مِنْ نَحْوِ

_________

(١) حديث: " صلاة الرجل في الجماعة تزيد. . . ". أخرجه مسلم (١ / ٤٥١) من حديث ابن عمر.

(٢) المغني لابن قدامة ١ / ٥٩٦، ٥٩٧، وكشاف القناع ١ / ٢٧٣.

(٣) ابن عابدين ١ / ٣٨٠، والمغني لابن قدامة ١ / ٥٩٦، ٥٩٧.

(٤) فتح القدير مع الهداية ١ / ١٨٥.

سَبُعٍ، أَوْ خَوْفٍ عَلَى مَالٍ مِنَ الضَّيَاعِ، أَوْ لِضِيقِ مَكَانٍ كَسَفِينَةٍ، صَلَّوْا قِيَامًا رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ صَفًّا وَاحِدًا غَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ، إِمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ فِي الصَّفِّ غَيْرُ مُتَقَدَّمٍ عَلَيْهِمْ (١) .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْعُرْيَانِ الْعَاجِزِ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ قَوْلاَنِ وَوَجْهٌ، وَقِيل: ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: يُصَلِّي قَائِمًا، وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَالثَّانِي: يُصَلِّي قَاعِدًا، وَهَل يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَمْ يُومِئُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ (٢)، وَلَوْ حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ الْعُرَاةِ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَيَقِفُ إِمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ، وَهَل يُسَنُّ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ، أَمِ الأَْصَحُّ أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى؟ قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ: الاِنْفِرَادُ أَفْضَل، وَالْجَدِيدُ: الْجَمَاعَةُ أَفْضَل، قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ مَا حَكَاهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَالاِنْفِرَادَ سَوَاءٌ (٣)، وَهَذَا إِذَا كَانُوا بِحَيْثُ يَتَأَتَّى نَظَرُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانُوا عُمْيًا، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ اسْتُحِبَّتْ لَهُمُ الْجَمَاعَةُ بِلاَ خِلاَفٍ (٤) .

وَبَيَانُ مَا يُعْتَبَرُ سَاتِرًا لِلْعَوْرَةِ مِنَ الثِّيَابِ

_________

(١) جواهر الإكليل ١ / ٤٣، والحطاب ١ / ٥٠٧.

(٢) روضة الطالبين ١ / ١٢٢.

(٣) روضة الطالبين ١ / ٢٨٥.

(٤) نفس المرجع.

وَغَيْرِهَا يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة) .

هَل يُعِيدُ الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ سَاتِرًا بَعْدَ الصَّلاَةِ؟

٩ - إِذَا صَلَّى الْعَاجِزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عُرْيَانًا، ثُمَّ وَجَدَ مَا يَسْتُرُهَا بِهِ مِنَ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا فَهَل يُعِيدُ الصَّلاَةَ أَمْ لاَ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ اتِّجَاهَانِ:

الأَْوَّل: يُعِيدُ الصَّلاَةَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَال الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال: هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَل الْبُهُوتِيُّ عَنِ الرِّعَايَةِ: أَنَّهُ هُوَ الأَْقْيَسُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ،

الثَّانِي: تَمَّتْ صَلاَتُهُ وَلاَ يُعِيدُهَا، وَهَذَا قَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ (١) .

الطَّوَافُ عُرْيَانًا:

١٠ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ حَتَّى لَوْ طَافَ عُرْيَانًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ (٢) كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ كَمَا فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ طَافَ عُرْيَانًا مَعَ الْقُدْرَةِ

_________

(١) فتح القدير ١ / ٤٦٦، وشرح الزرقاني على مختصر خليل ١ / ١٧٩، ومغني المحتاج ١ / ١٨٥، وكشاف القناع ١ / ٢٧٢.

(٢) فتح القدير مع الهداية ٢ / ٢٤٩، والبدائع ٢ / ١٢٩.

عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ (١)، وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى شَرْطِيَّةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى فِي الطَّوَافِ (٢) . وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ شَرَطُوا سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الطَّوَافِ (٣) .

عَزْفٌ

انْظُرْ: مَعَازِفُ.

_________

(١) روضة الطالبين ٣ / ٧٩، مناهج الطالبين ص ١٠٣.

(٢) الشرح الصغير ٢ / ٣٤٦.

(٣) كشاف القناع ٢ / ٤٨٥.

عَزْل

التَّعْرِيفُ:

١ - الْعَزْل لُغَةً: التَّنْحِيَةُ، يُقَال: عَزَلَهُ عَنِ الأَْمْرِ أَوِ الْعَمَل أَيْ: نَحَّاهُ عَنْهُ (١) .

وَيُقَال: عَزَل عَنِ الْمَرْأَةِ وَاعْتَزَلَهَا: لَمْ يُرِدْ وَلَدَهَا.

قَال الْجَوْهَرِيُّ الْعَزْل: عَزْل الرَّجُل الْمَاءَ عَنْ جَارِيَتِهِ إِذَا جَامَعَهَا لِئَلاَّ تَحْمِل (٢) .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْل مِنْ أَحْكَامٍ:

عَزْل الإِْمَامِ مِنْ قِبَل مَنْ بَايَعَهُ:

٢ - تَنْعَقِدُ الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى بِبَيْعَةِ الأُْمَّةِ - مُمَثَّلَةً بِأَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ - لِلإِْمَامِ الَّذِي تَتَوَافَرُ فِيهِ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ.

وَيُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الإِْمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُول بِزَوَالِهَا، إِلاَّ الْعَدَالَةَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَال الْعَدَالَةِ عَلَى مَنْصِبِ الإِْمَامَةِ.

وَتَفْصِيل

_________

(١) مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ٣ / ٢٦٦، والصحاح للجوهري ٥ / ١٧٦٣، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار.

(٢) لسان العرب.

ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف ١٢) .

عَزْل الإِْمَامِ نَفْسَهُ:

٣ - عَزْل الإِْمَامِ نَفْسَهُ يَعْنِي اسْتِعْفَاءَهُ أَوِ اسْتِقَالَتَهُ مِنَ الإِْمَامَةِ.

وَقَدْ حَصَل الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:

الأَْوَّل - جَوَازُ ذَلِكَ، وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ: وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ ﵄ قَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ وَتَنَازَل عَنِ الْخِلاَفَةِ لِمُعَاوِيَةَ ﵁؛ وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ﵁ لَمَّا تَمَّتْ لَهُ الْبَيْعَةُ أَقَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَسْتَقْبِل النَّاسَ وَيَقُول: قَدْ أَقَلْتُكُمْ فِي بَيْعَتِي، هَل مِنْ كَارِهٍ؟ هَل مِنْ مُبْغِضٍ؟ وَلَوْلاَ جَوَازُهَا لَمَا قَال ذَلِكَ.

الثَّانِي - عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَةَ انْعَقَدَتْ لَهُ مِنْ قِبَل أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، فَصَارَ الْعَقْدُ لاَزِمًا، لاَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ إِلاَّ بَعْدَ صُدُورِ قَرَارٍ مِنْهُمْ بِعَزْلِهِ (١)

عَزْل الْوَزِيرِ:

٤ - لاَ يَجُوزُ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ،

وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.

_________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي ص٢٥.

وَهَل عَزْل الإِْمَامِ لِلْوَزِيرِ يُؤَثِّرُ عَلَى عَزْل عُمَّالِهِ وَوُلاَتِهِ؟

الْوَزَارَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ - وَزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوَزَارَةِ تَنْفِيذٍ. . فَإِذَا عَزَل الإِْمَامُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ لَمْ يَنْعَزِل بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْوُلاَةِ، أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ - فَعَزْلُهُ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ يَكُونُ سَبَبًا لِعَزْل عُمَّال التَّنْفِيذِ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِعَزْل عُمَّال التَّفْوِيضِ؛ لأَِنَّ عُمَّال التَّفْوِيضِ وُلاَةٌ، وَعُمَّال التَّنْفِيذِ نُوَّابٌ (١) .

عَزْل الْقَاضِي:

أَوَّلًا - عَزْل الْقَاضِي نَفْسَهُ:

٥ - إِذَا رَغِبَ الْقَاضِي اعْتِزَال مَنْصِبِ الْقَضَاءِ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْزِل نَفْسَهُ هُوَ - بِأَنْ يَقُول عَزَلْتُ نَفْسِي عَنِ الْقَضَاءِ، أَوْ أَنَا مَعْزُولٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ كَتَبَ بِذَلِكَ لِلإِْمَامِ بِسَبَبٍ أَوْ دُونَ سَبَبٍ - صَحَّ ذَلِكَ وَصَارَ مَعْزُولًا؛ لأَِنَّهُ بِمَثَابَةِ الْوَكِيل، وَلِلْوَكِيل عَزْل نَفْسِهِ (٢)، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يَعْتَزِل بَعْدَ سَمَاعِ الإِْمَامِ بِذَلِكَ لاَ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَ وُصُول كِتَابِهِ إِلَيْهِ (٣) .

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ - فَقَيَّدُوا ذَلِكَ بِشَرْطِ عَدَمِ تَعَلُّقِ حَقٍّ لأَِحَدٍ فِي قَضَائِهِ حَتَّى لاَ يُؤَدِّيَ

_________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي ص٢٥.

(٢) الفتاوى الهندية ٣ / ٣١٨، وتبصرة الحكام ١ / ٦٢ ط. بيروت، القليوبي ٤ / ٢٩٩، وكشاف القناع ٦ / ٢٩٤.

(٣) الفتاوى الهندية ٣ / ٣١٨.

انْعِزَالُهُ إِلَى حُصُول ضَرَرٍ لِمَنِ الْتَزَمَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ (١) .

ثَانِيًا - عَزْلُهُ بِمَوْتِ الإِْمَامِ أَوْ بِعَزْلِهِ عَنِ الإِْمَامَةِ:

٦ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ انْعِزَال الْقَاضِي بِمَوْتِ الإِْمَامِ الَّذِي وَلاَّهُ الْقَضَاءَ أَوْ عَزَلَهُ، سَوَاءٌ أَظْهَرَهُمْ تَقْلِيدَهُ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِ أَوْ بَقَائِهِ فِي الإِْمَامَةِ أَمْ أَطْلَقَ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ ﵃ وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَانِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ، وَبِأَنَّ فِي عَزْلِهِ بِمَوْتِ الإِْمَامِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْبُلْدَانَ تَتَعَطَّل مِنَ الْحُكَّامِ وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ إِلَى أَنْ يُوَلِّيَ الإِْمَامُ الثَّانِي حُكَّامًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَل لِمَصْلَحَةِ الإِْمَامِ، بَل لِمَصْلَحَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (٢) .

ثَالِثًا - عَزْل الْقَاضِي مِنْ قِبَل الإِْمَامِ:

٧ - إِذَا كَانَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ مُتَوَفِّرَةً فِي الْقَاضِي، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ عَزْلَهُ فَهَل يَمْلِكُ الإِْمَامُ عَزْلَهُ أَمْ لاَ؟ .

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:

_________

(١) تبصرة الحكام ١ / ٦٢ ط. بيروت.

(٢) البدائع ٧ / ١٦، الخرشي ٧ / ١٤٤، مغني المحتاج ٤ / ٣٨٣، المغني ٧ / ١٠٣.

الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَمْلِكُ الإِْمَامُ عَزْلَهُ مُطْلَقًا، فَإِذَا عَزَلَهُ نَفَذَ عَزْلُهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ، دُونَ حُصُول إِثْمٍ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَدُ رَأْيَيِ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَعْزِلُونَ قُضَاتَهُمْ، وَلَوْلاَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ لَمَا فَعَلُوهُ (١) .

الرَّأْيُ الثَّانِي: يُمْكِنُ لِلإِْمَامِ عَزْل الْقَاضِي لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ التَّالِيَةِ:

أ - حُصُول خَلَلٍ مِنْهُ وَلَوْ بِغَالِبِ الظَّنِّ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ الشَّكَاوَى عَلَيْهِ.

ب - أَنْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ خَلَلٌ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَزِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

ج - أَنْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ خَلَلٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ أَفْضَل مِنْهُ بَل مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، وَلَكِنْ فِي عَزْلِهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، كَتَسْكِينِ فِتْنَةٍ.

أَمَّا إِنْ عَزَلَهُ دُونَ حُصُول هَذِهِ الأَْسْبَابِ فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَهَل يَنْفُذُ عَزْلُهُ أَمْ لاَ؟ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُرَاعَاةً لأَِمْرِ الإِْمَامِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ غَيْرُهُ، فَعِنْدَئِذٍ لاَ يَنْفُذُ.

_________

(١) الفتاوى الهندية ٣ / ٣١٧، بدائع الصنائع ٧ / ١٦، والمغني لابن قدامة ٩ / ١٠٣ ط. بيروت.

ثَانِيهِمَا: عَدَمُ النَّفَاذِ وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْخَلَل وَعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ.

وَهَذَا هُوَ الرَّأْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَزْلُهُ إِنْ تَحَقَّقَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي بَقَائِهِ وَيُسْتَحَبُّ إِنْ خُشِيَ مَفْسَدَتُهُ (١) . الرَّأْيُ الثَّالِثُ: عَدَمُ جَوَازِ عَزْلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الرَّأْيُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ.

وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ لَهُ أَمْرٌ تَعُودُ مَصْلَحَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَمْلِكِ الإِْمَامُ عَزْلَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ (٢) .

اسْتِيلاَءُ الْبَاغِي عَلَى السُّلْطَةِ هَل يُؤَدِّي إِلَى عَزْل الْقُضَاةِ؟

٨ - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْقُضَاةَ لاَ يَنْعَزِلُونَ بِمُجَرَّدِ اسْتِيلاَءِ الْبَاغِي، إِلاَّ أَنَّهُ لَوْ عَزَلَهُمُ انْعَزَلُوا وَلاَ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُمْ.

وَإِذَا انْهَزَمَ الْبَاغِي وَعَادَ السُّلْطَانُ الْعَدْل لِلْحُكْمِ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ ثَانِيًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ (٣) .

_________

(١) مغني المحتاج ٤ / ٣٨١، وأدب القاضي لابن أبي الدم ١ / ١٥٠.

(٢) انظر المغني ٩ / ١٠٣، والمبدع ١٠ / ١٦، الخرشي ٧ / ١٤٦.

(٣) الفتاوى الهندية ٣ / ٣٠٧.