الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٠
فَلاَ عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ الطَّارِئِ بَعْدَ التَّصَرُّفِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: الْعَوَائِدُ الطَّارِئَةُ بَعْدَ النُّطْقِ لاَ يُقْضَى بِهَا عَلَى النُّطْقِ، فَإِنَّ النُّطْقَ سَالِمٌ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، فَيُحْمَل عَلَى اللُّغَةِ، وَنَظِيرُهُ: إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُحْمَل عَلَى الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ فِي النَّقْدِ، وَمَا يَطْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ فِي النُّقُودِ لاَ عِبْرَةَ بِهِ فِي هَذَا الْبَيْعِ الْمُتَقَدِّمِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ وَالإِْقْرَارُ وَالْوَصِيَّةُ إِذَا تَأَخَّرَتِ الْعَوَائِدُ عَلَيْهَا لاَ تُعْتَبَرُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْعَوَائِدِ مَا كَانَ مُقَارِنًا لَهَا.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الْعُرْفُ الَّذِي تُحْمَل عَلَيْهِ الأَْلْفَاظُ إِنَّمَا هُوَ الْمُقَارِنُ السَّابِقُ دُونَ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عِبَارَةَ السُّيُوطِيِّ: وَلِذَا قَالُوا: لاَ عِبْرَةَ بِالطَّارِئِ (١) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل بَعْضِ مَسَائِل الْعُرْفِ فِي مُصْطَلَحِ: (عَادَة)، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلاَمُ مُفَصَّلًا عَلَى مَبَاحِثِ الْعُرْفِ وَمَسَائِلِهِ فِي: الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
_________
(١) شرح تنقيح الفصول للقرافي ٢١١ ط دار الفكر ١٩٧٣م، الأشباه والنظائر للسيوطي ٩٦، الأشباه والنظائر لابن نجيم ١٠١.
عَرَفَات
التَّعْرِيفُ:
١ - عَرَفَاتُ وَعَرَفَةُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ رُكْنَ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِهَا (١) .
حُدُودُ عَرَفَةَ:
٢ - قَال الشَّافِعِيُّ: هِيَ مَا جَاوَزَ وَادِي عُرَنَةَ - بِعَيْنٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ إِلَى الْجِبَال الْقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ، وَقَدْ وُضِعَتِ الآْنَ عَلاَمَاتٌ حَوْل أَرْضِ عَرَفَةَ تُبَيِّنُ حُدُودَهَا وَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهَا؛ لِئَلاَّ يَقَعَ وُقُوفُهُ خَارِجَ عَرَفَةَ، فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ، أَمَّا جَبَل الرَّحْمَةِ فَفِي وَسَطِ عَرَفَاتٍ، وَلَيْسَ نِهَايَةَ عَرَفَاتٍ، وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ إِلَى مَوَاضِعَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ يَقَعُ فِيهَا الاِلْتِبَاسُ لِلْحُجَّاجِ وَهِيَ:
أ - وَادِي عُرَنَةَ.
ب - وَادِي نَمِرَةَ.
ج - الْمَسْجِدُ الَّذِي سَمَّاهُ الأَْقْدَمُونَ مَسْجِدَ إِبْرَاهِيمَ، وَيُسَمَّى مَسْجِدَ نَمِرَةَ وَمَسْجِدَ عَرَفَةَ، قَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ،
_________
(١) المصباح المنير.
وَإِنَّ مَنْ وَقَفَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ تَوْسِيعُ الْمَسْجِدِ كَثِيرًا فِي عَصْرِنَا، وَفِي دَاخِل الْمَسْجِدِ عَلاَمَاتٌ تُبَيِّنُ لِلْحُجَّاجِ مَا هُوَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَمَا لَيْسَ مِنْهَا يَنْبَغِي النَّظَرُ إِلَيْهَا (١) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
٣ - الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، بَل هُوَ الرُّكْنُ الَّذِي إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ لِحَدِيثِ: الْحَجُّ عَرَفَةَ (٢) وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (حَجٌّ ف وَمَا بَعْدَهَا، وَيَوْمُ عَرَفَةَ.)
_________
(١) المجموع ٨ / ١١٠ - ١١١، والمسلك المتقسط: ١٤٠ - ١٤١، حاشية إرشاد الساري، وتاريخ مكة ٢ / ١٩٤ - ١٩٥، ومعجم البلدان ١٢ / ٤.
(٢) حديث: " الحج عرفة ". أخرجه أبو داود (٢ / ٤٨٦ تحقيق عبيد دعاس)، والحاكم (١ / ٤٦٤ - ط - دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
عَرَق
التَّعْرِيفُ:
١ - الْعَرَقُ لُغَةً: مَا جَرَى مِنْ أُصُول الشَّعْرِ مِنْ مَاءِ الْجِلْدِ، قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ: وَيَأْتِي لِعِدَّةِ مَعَانٍ مِنْهَا: الثَّوَابُ وَاللَّبَنُ.
وَيُسْتَعْمَل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا رَشَحَ مِنَ الْبَدَنِ.
وَالآْخَرِ: نَوْعٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ يُقَطَّرُ مِنَ الْخَمْرِ وَيُسَمَّى عَرَقِيًّا
(١) الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّمْعُ:
٢ - الدَّمْعُ لُغَةً: مَاءُ الْعَيْنِ، يُقَال: دَمَعَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا إِذَا سَال مَاؤُهَا، وَعَيْنٌ دَامِعَةٌ أَيْ: سَائِلٌ دَمْعُهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (٢) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَرَقِ وَالدَّمْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْجِسْمُ
_________
(١) لسان العرب والمصباح المنير، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير ١ / ٥٠، وروضة الطالبين ١ / ١٦، وحاشية ابن عابدين ٣ / ١٦٢، ١٦٣، ١ / ٢١٦.
(٢) المصباح المنير.
ب - اللُّعَابُ:
٣ - اللُّعَابُ فِي اللُّغَةِ: مَا سَال مِنَ الْفَمِ، يُقَال: لَعَبَ الرَّجُل إِذَا سَال لُعَابُهُ، وَأَلْعَبَ أَيْ: صَارَ لَهُ لُعَابٌ يَسِيل مِنْ فَمِهِ، وَلُعَابُ الْحَيَّةِ: سُمُّهَا، وَلُعَابُ النَّحْل الْعَسَل.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (١) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْعَرَقُ بِمَعْنَى مَا رَشَحَ مِنَ الْبَدَنِ:
٤ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ الإِْنْسَانِ مُطْلَقًا، لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، الصَّاحِي وَالسَّكْرَانِ، وَالطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ وَالْجُنُبِ (٢) .
٥ - وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ:
فَقَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ عَرَقَ الْحَيَوَانِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: طَاهِرٍ، وَنَجِسٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَوَلِّدٌ مِنَ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ.
فَالطَّاهِرُ: عَرَقُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَعَرَقُ الْفَرَسِ، أَمَّا عَرَقُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ؛ فَلأَِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمٍ مَأْكُولٍ فَأَخَذَ
_________
(١) المصباح المنير، ولسان العرب، ورد المحتار على الدر المختار ١ / ٩٣.
(٢) تبيين الحقائق ١ / ٣١، حاشية الدسوقي ١ / ٥٠، كشاف القناع ١ / ١٩٣، ١٩٤، المغني ١ / ٤٩.
حُكْمَهُ، وَأَمَّا طَهَارَةُ عَرَقِ الْفَرَسِ؛ فَلأَِنَّ عَرَقَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ، وَحُرْمَتُهُ لِكَوْنِهِ آلَةَ الْجِهَادِ لاَ لِنَجَاسَتِهِ.
وَالنَّجِسُ: عَرَقُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، أَمَّا الْكَلْبُ فَلِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ (١) فَهَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ النَّجَاسَةَ؛ لأَِنَّ الطَّهُورَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ فَيَسْتَدْعِي سَابِقَةَ التَّنَجُّسِ أَوِ الْحَدَثِ، وَالثَّانِي مُنْتَفٍ، فَتَعَيَّنَ الأَْوَّل، وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ؛ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ (٢) وَأَمَّا سِبَاعُ الْبَهَائِمِ؛ فَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَحْمُهَا حَرَامٌ نَجِسٌ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: نَهَى عَنْ كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُل ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ (٣) .
وَالْمَكْرُوهُ: عَرَقُ الْهِرَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ، قَال الْكَرْخِيُّ: كَرَاهِيَةُ عَرَقِ الْهِرَّةِ لأَِجْل أَنَّهَا لاَ تَتَحَامَى النَّجَاسَةَ، وَقَال الطَّحَاوِيُّ: الْكَرَاهَةُ لِحُرْمَةِ
_________
(١) حديث: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ١ / ٢٧٤)، ومسلم (١ / ٢٣٤) من حديث أبي هريرة. واللفظ لمسلم.
(٢) سورة الأنعام / ١٤٥.
(٣) حديث: " نهى عن كل ذي ناب من السباع. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٩ / ٦٥٧)، ومسلم (٣ / ١٥٣٤) من حديث ابن عباس. واللفظ لمسلم.
لَحْمِهَا
قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَوْل الطَّحَاوِيِّ يَدُل عَلَى أَنَّهَا إِلَى التَّحْرِيمِ أَقْرَبُ كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ؛ لأَِنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لاَزِمٌ غَيْرُ عَارِضٍ، وَقَوْل الْكَرْخِيِّ يَدُل عَلَى التَّنَزُّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ وَالأَْقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ ﵊ قَال فِيهَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ (١) وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلاَّةِ فَلِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ، وَيَصِل مِنْقَارُهَا إِلَى مَا تَحْتَ رِجْلَيْهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا الإِْبِل وَالْبَقَرُ الْجَلاَّلَةُ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ عَرَقِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ فَاسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى، فَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَنْقَضُّ مِنْ عُلُوٍّ وَهَوَاءٍ فَلاَ يُمْكِنُ صَوْنُ الأَْوَانِي عَنْهَا لاَ سِيَّمَا فِي الْبَرَارِيِّ، وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ طَوَافُهَا أَلْزَمُ مِنَ الْهِرَّةِ؛ لأَِنَّ الْفَأْرَةَ تَدْخُل مَا لاَ تَقْدِرُ الْهِرَّةُ دُخُولَهُ وَهُوَ الْعِلَّةُ فِي الْبَابِ لِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا؛ لأَِنَّ لَحْمَهَا نَجِسٌ وَحَرَامٌ. وَالْعَرَقُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَرَقُ الْحِمَارِ وَالْبَغْل لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ: أَمَرَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ وَقَال: إِنَّهَا رِجْسٌ (٢) . وَأَمَّا الْبَغْل فَهُوَ
_________
(١) حديث: " إنها ليست بنجس. . . ". أخرجه الترمذي (١ / ١٥٤) من حديث أبي قتادة، وقال: حديث حسن صحيح.
(٢) حديث: " أمر يوم خيبر بإكفاء القدور. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٩ / ٦٥٣ - ٦٥٤)، ومسلم (٣ / ١٥٤٠) من حديث أنس.
مِنْ نَسْل الْحِمَارِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قِيل: سَبَبُهُ تَعَارُضُ الأَْخْبَارِ فِي لَحْمِهِ، وَقِيل اخْتِلاَفُ الصَّحَابَةِ فِي سُؤْرِهِ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّ الْحِمَارَ أَشْبَهَ الْهِرَّةَ لِوُجُودِهِ فِي الدُّورِ وَالأَْفْنِيَةِ، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ دُونَ الضَّرُورَةِ فِيهَا لِدُخُولِهَا مَضَايِقَ الْبَيْتِ فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ وَالسِّبَاعَ، فَلَمَّا ثَبَتَ الضَّرُورَةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَاسْتَوَى مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ وَالنَّجَاسَةَ تَسَاقَطَا لِلتَّعَارُضِ، فَصُيِّرَ إِلَى الأَْصْل، وَهُوَ هُنَا شَيْئَانِ: الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي اللُّعَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الآْخَرِ فَبَقِيَ الأَْمْرُ مُشْكِلًا، نَجِسًا مِنْ وَجْهٍ، طَاهِرًا مِنْ آخَرَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ كُل حَيَوَانٍ حَيٍّ، بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، وَلَوْ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَرَقَ لَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً، فَعَرَقُ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ، وَعَرَقُ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ نَجِسٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كُل الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرَةٌ مَا عَدَا الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: النَّجِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لاَ يُؤْكَل مِنَ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ مِمَّا فَوْقَ الْهِرِّ
خِلْقَةً كَالصَّقْرِ وَالْبُومِ وَالْعُقَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّسْرِ وَالرَّخَمِ وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَالأَْبْقَعِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ وَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَابْنِ آوَى وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي طَهَارَةُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَرْكَبُهُمَا وَيُرْكَبَانِ فِي زَمَنِهِ وَفِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا لِمُقْتَنِيهِمَا فَأَشْبَهَا السِّنَّوْرَ (١) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَة، وَنَجَاسَة) .
ب - الْعَرَقُ بِمَعْنَى الْخَمْرِ:
٦ - الْعَرَقُ نَوْعٌ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ يُقَطَّرُ مِنَ الْخَمْرِ، حُكْمُهُ حُكْمُ الْخَمْرِ، فَهُوَ نَجِسٌ وَيُحَدُّ شَارِبُهُ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ شَكَّ أَنَّ الْعَرَقَ الْمُسْتَقْطَرَ مِنَ الْخَمْرِ هُوَ عَيْنُ الْخَمْرِ، تَتَصَاعَدُ مَعَ الدُّخَانِ وَتُقَطَّرُ مِنَ الطَّابَقِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهَا إِلاَّ أَجْزَاؤُهُ التُّرَابِيَّةُ؛ وَلِذَا يَفْعَل الْقَلِيل مِنْهُ فِي الإِْسْكَارِ أَضْعَافَ مَا
_________
(١) تبيين الحقائق ١ / ٣١ وما بعدها، حاشية ابن عابدين ١ / ١٤٨ وما بعدها حاشية الدسوقي ١ / ٥٠، روضة الطالبين ١ / ١٣، ١٦، مغني المحتاج ١ / ٧٨، ٨١، مطالب أولي النهى ١ / ٢٣١ وما بعدها ٢٣٤، ٢٣٧، كشاف القناع ١ / ١٩٢، والمغني لابن قدامة ١ / ٤٩.
يَفْعَلُهُ كَثِيرُ الْخَمْرِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْمُفْتَى بِهِ: أَنَّ الْعَرَقَ لَمْ يَخْرُجْ بِالطَّبْخِ وَالتَّصْعِيدِ عَنْ كَوْنِهِ خَمْرًا، فَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ، وَأَمَّا إِذَا سَكِرَ مِنْهُ فَلاَ شُبْهَةَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي بِنَجَاسَتِهِ أَيْضًا (١) .
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ١٦٢، ١٦٣.