الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٩
مُعْتَادًا وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَمُعَنْوَنًا، مِثْل مَا يُكْتَبُ إِلَى الْغَائِبِ، وَالْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ هِيَ: مَا يُكْتَبُ عَلَى الصَّحِيفَةِ وَالْحَائِطِ وَالأَْرْضِ، عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فَهْمُهُ وَقِرَاءَتُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَتَبَ الطَّلاَقَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، (نَاوِيًا لَهُ)، أَوْ كَتَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَ، وَإِنْ كَتَبَهُ لِيَسْتَخِيرَ فِيهِ، كَانَ الأَْمْرُ بِيَدِهِ، إِلاَّ أَنْ يَخْرُجَ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ (١) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَتَبَ نَاطِقٌ طَلاَقًا وَلَمْ يَنْوِهِ فَلَغْوٌ، وَإِنْ نَوَاهُ فَالأَْظْهَرُ وُقُوعُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ بِمَا يَتَبَيَّنُ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَإِنْ نَوَى تَجْوِيدَ خَطِّهِ أَوْ غَمَّ أَهْلِهِ أَوْ تَجْرِبَةَ قَلَمِهِ لَمْ يَقَعْ، وَيُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ حُكْمًا. وَإِنْ كَتَبَ صَرِيحَ طَلاَقِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ لاَ يَتَبَيَّنُ لَمْ يَقَعْ (٢) .
ج - شُرُوطُ الإِْشَارَةِ:
٣٢ - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الطَّلاَقِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَالُوا: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِإِشَارَةِ الْقَادِرِ عَلَى الْكَلاَمِ، كَالأَْخْرَسِ إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُفْهِمَةً لَمْ يَقَعْ بِهَا
_________
(١) الشرح الصغير ٢ / ٥٦٨ - ٥٦٩.
(٢) مغني المحتاج ٣ / ٢٨٤، وكشاف القناع ٥ / ٢٤٩.
الطَّلاَقُ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، وَفِي قَوْلٍ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ بِالنِّيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ بِالطَّلاَقِ كِنَايَةٌ لِحُصُول الإِْفْهَامِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ.
فَأَمَّا الأَْخْرَسُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِإِشَارَتِهِ، وَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ عَنِ الْكِتَابَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ لَمْ يَصِحَّ طَلاَقُهُ بِالإِْشَارَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ (١) . ثُمَّ إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَفْهُومَةً لَدَى كُل النَّاسِ، وَقَعَ بِهَا الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالصَّرِيحِ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْهُومَةً لَدَى بَعْضِهِمْ فَقَطْ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهَا مَعَ النِّيَّةِ فَقَطْ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (٢) كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِوُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ أَنْ يَكُونَ خَرَسُهُ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى الْمَوْتِ فِي الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ، وَلِذَا كَانَ طَلاَقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَوْتِهِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: إِذَا دَامَ سَنَةً كَانَ كَمَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ.
_________
(١) الدر المختار ٣ / ٢٤١، والقوانين الفقهية ص ٢٥٥، والدسوقي ٢ / ٣٨٤، ومغني المحتاج ٣ / ٢٨٤، والمغني ٧ / ٤٢٣.
(٢) مغني المحتاج ٣ / ٢٨٤.
أَنْوَاعُ الطَّلاَقِ:
٣٣ - لِلطَّلاَقِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهِ. - فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيهِ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٌ وَكِنَائِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ الأَْثَرُ النَّاتِجُ عَنْهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، وَالْبَائِنُ عَلَى نَوْعَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى - وَمِنْ حَيْثُ صِفَتُهُ عَلَى نَوْعَيْنِ: سُنِّيٌّ وَبِدْعِيٌّ - وَمِنْ حَيْثُ وَقْتُ وُقُوعِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: مُنَجَّزٌ، وَمُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَمُضَافٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَل. وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أَوَّلًا: الصَّرِيحُ وَالْكِنَائِيُّ:
٣٤ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (١)، عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ هُوَ: مَا لَمْ يُسْتَعْمَل إِلاَّ فِيهِ غَالِبًا، لُغَةً أَوْ عُرْفًا، وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ بِلاَ نِيَّةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ تَنَافٍ، بَل تَكَامُلٌ، فَالأَْوَّل تَعْرِيفُهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَل فِيهِ، وَالثَّانِي بِحَسَبِ الأَْثَرِ النَّاتِجِ عَنْهُ.
_________
(١) ابن عابدين ٣ / ٢٤٧ - ٢٩٦، والدسوقي ٢ / ٣٧٨، ومغني المحتاج ٣ / ٢٨٠، والمغني ٧ / ٣١٨ - ٣١٩.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ فِي الطَّلاَقِ هُوَ: مَا لَمْ يُوضَعِ اللَّفْظُ لَهُ، وَاحْتَمَلَهُ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ كِنَايَةً، وَكَانَ لَغْوًا لَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ (١) . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَاقَضَةِ قَضَاءً فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ، وَقَال: لَمْ أَنْوِ بِهِ شَيْئًا وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ قَال: نَوَيْتُ غَيْرَ الطَّلاَقِ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَصُدِّقَ دِيَانَةً، هَذَا مَا لَمْ يَحُفَّ بِاللَّفْظِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا يَدُل عَلَى صِدْقِ نِيَّتِهِ فِي إِرَادَةِ غَيْرِ الطَّلاَقِ، فَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِهِ الطَّلاَقَ صُدِّقَ قَضَاءً أَيْضًا، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ عَلَيْهِ طَلاَقٌ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الطَّلاَقِ فَطَلَّقَ صَرِيحًا غَيْرَ نَاوٍ بِهِ الطَّلاَقَ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ دِيَانَةً وَلاَ قَضَاءً لِقَرِينَةِ الإِْكْرَاهِ (٢) . وَهَذَا لَدَى الْجُمْهُورِ، وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِوُقُوعِ الطَّلاَقِ مِنَ الْمُكْرَهِ كَمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا الْكِنَائِيُّ فَلاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ مَعَ النِّيَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِل الطَّلاَقَ وَغَيْرَهُ، فَلاَ يُصْرَفُ إِلَى الطَّلاَقِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا وُقُوعُهُ بِالنِّيَّةِ فَلأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ بِهَا. وَقَدْ أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ
_________
(١) المغني ٧ / ٣٢٩.
(٢) الدسوقي ٢ / ٣٧٩.
بِالصَّرِيحِ، فَأَوْقَعُوا الطَّلاَقَ بِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهِيَ الْكِنَايَاتُ الَّتِي تُسْتَعْمَل فِي الطَّلاَقِ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ تُوضَعْ لَهُ فِي الأَْصْل، وَهِيَ لَفْظُ: الْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ. وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي قَوْل الْقَاضِي، إِلاَّ أَنَّ مَفْهُومَ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا.
٣٥ - وَهَل يَحِل مَحَل النِّيَّةِ قَرَائِنُ الْحَال فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِالْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؟ . ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ قَرَائِنَ الْحَال كَالنِّيَّةِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ، كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ فِي حَالَةِ غَضَبٍ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَإِنَّهُ طَلاَقٌ وَلَوْ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالَةِ مُسَاءَلَةِ الطَّلاَقِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِقَرَائِنِ الْحَال هُنَا، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِاللَّفْظِ الْكِنَائِيِّ عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الأَْلْفَاظَ الصَّرِيحَةَ فِي الطَّلاَقِ هِيَ مَادَّةُ (طَلَّقَ) وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا لُغَةً وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ.
فَلَوْ قَال لَهَا: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ كِنَايَةً، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ أَنْزَلُوا
الْكِنَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ مَنْزِلَةَ الصَّرِيحِ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنَ الصَّرِيحِ (١) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الصَّرِيحَ أَلْفَاظٌ ثَلاَثَةٌ هِيَ: الطَّلاَقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ، وَمَا اشْتُقَّ مِنْهَا لُغَةً وَعُرْفًا، مِثْل: طَلَّقْتُكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمُطَلَّقَةٌ، فَلَوْ قَال: أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِالتَّخْفِيفِ كَانَ كِنَايَةً، لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الطَّلاَقِ. وَأَمَّا الْكِنَائِيُّ فَمَا وَرَاءَ الصَّرِيحِ مِنَ الأَْلْفَاظِ مِمَّا يَحْتَمِل الطَّلاَقَ كَلَفْظِ: اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِك، وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ، وَأَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِغَيْرِ تَشْدِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (٢) . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ بِاللَّفْظِ الْمُصَحَّفِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ صَرِيحًا وَقَعَ الطَّلاَقُ بِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَلَفْظِ: طَلاَغ، وَتَلاَغٍ، وَطَلاَكٍ، وَتَلاَكٍ. . . بِلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطَلِّقُ عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا، إِلاَّ أَنْ يَقُول الْمُطَلِّقُ: تَعَمَّدْتُ التَّصْحِيفَ هَذَا لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، وَيَحُفُّ بِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال مَا يُصَدِّقُهُ، كَالإِْشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ قَبْل
_________
(١) ابن عابدين ٣ / ٢٤٧ - ٢٤٨، والدسوقي ٢ / ٣٧٨، المغني ٧ / ٣٢٢، ٣٢٦، ومغني المحتاج ٣ / ٢٨٠.
(٢) مغني المحتاج ٣ / ٢٨٠، والمغني ٧ / ٣١٨ - ٣٢١، ونيل المآرب ٢ / ٢٣٧.
الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَإِلاَّ وَقَعَ الطَّلاَقُ (١) . وَلَمْ يَحْصُرِ الْفُقَهَاءُ الصَّرِيحَ فِي الطَّلاَقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، بَل أَطْلَقُوهُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَذَكَرُوا أَلْفَاظًا بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ يَقَعُ بِهَا الطَّلاَقُ صَرِيحًا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، مِثْل: " سان بوش " بِالتُّرْكِيَّةِ " وَبهشتم " بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى فِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ بَعْضُ اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، أَهِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَمْ مِنَ الْكِنَائِيِّ؟ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ مَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهَذِهِ اللُّغَاتِ وَالأَْعْرَافِ (٢) .
مَا يَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ مِنَ الطَّلاَقِ:
٣٦ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (٣) إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الزَّوْجِ يَكُونُ رَجْعِيًّا دَائِمًا وَلاَ يَكُونُ بَائِنًا إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلاَثٍ، وَهِيَ:
أ - الطَّلاَقُ قَبْل الدُّخُول، وَيَكُونُ بَائِنًا.
ب - الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ، وَيَكُونُ بَائِنًا ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمَال بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَبْذُلْهُ لَهُ إِلاَّ لِبَيْنُونَتِهَا.
ج - الطَّلاَقُ الثَّلاَثُ، وَذَلِكَ ضَرُورَةُ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ الْكُبْرَى بِهِ، بِنَصِّ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿
_________
(١) ابن عابدين ٣ / ٢٤٩ ط. عيسى الحلبي.
(٢) ابن عابدين ٣ / ٢٤٨، والحطاب ٤ / ٤٤، ومغني المحتاج ٣ / ٢٨٠، والمغني ٧ / ١٢٤، ٢٣٨.
(٣) المغني ٧ / ٤٥٤، ومغني المحتاج ٣ / ٣٣٧.
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ (١) . هَذَا إِلَى جَانِبِ أَحْوَالٍ يَكُونُ الطَّلاَقُ فِي بَعْضِهَا بَائِنًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْقَاضِي، كَالتَّفْرِيقِ لِلْغَيْبَةِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْيلاَءِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلشِّقَاقِ وَالضَّرَرِ، وَالتَّفْرِيقِ لِلإِْعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِنَائِيَّ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِهِ بَائِنًا مُطْلَقًا، إِلاَّ أَلْفَاظًا قَلِيلَةً قَدْرَ وُجُودِ لَفْظِ الطَّلاَقِ الصَّرِيحِ فِيهَا، فَيَكُونُ رَجْعِيًّا، مِثْل: اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةً. وَالتَّقْدِيرُ: طَلَّقْتُكِ فَاعْتَدِّي، وَطَلَّقْتُكِ فَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً (٢) . أَمَّا الصَّرِيحُ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
الأَْوَّل: يَكُونُ بَعْدَ الدُّخُول، فَإِذَا كَانَ قَبْل الدُّخُول وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَمْ بِلَفْظٍ كِنَائِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ، فَإِنْ قُرِنَ بِعِوَضٍ (طَلاَقٌ عَلَى مَالٍ) كَانَ بَائِنًا.
الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلاَثِ لَفْظًا أَوْ إِشَارَةً أَوْ كِتَابَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الثَّالِثُ
_________
(١) الآية / ٢٣٠ من سورة البقرة.
(٢) الاختيار ٣ / ١٣٢.
بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ سَابِقَتَيْنِ عَلَيْهِ، رَجْعِيَّتَيْنِ أَوْ بَائِنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الثَّالِثَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَائِنًا بَيْنُونَةً كُبْرَى.
الرَّابِعُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنِ الْبَيْنُونَةِ، أَوْ تَدُل عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا، بِخِلاَفِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَبَائِنٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِالأُْولَى طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَبِالثَّانِيَةِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً تَمْلِكِينَ بِهَا نَفْسَكِ، فَإِنَّهُ بَائِنٌ.
الْخَامِسُ: أَنْ لاَ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِعَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ تَدُل عَلَى الْبَيْنُونَةِ، كَأَنْ يَقُول لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْل هَذِهِ وَيُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ بِثَلاَثِ طَلَقَاتٍ. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَعَ بِهِ الطَّلاَقُ بَائِنًا (١) .
ثَانِيًا: الرَّجْعِيُّ وَالْبَائِنُ:
٣٧ - الطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ هُوَ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، وَالْبَائِنُ هُوَ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَال. هَذَا، وَالطَّلاَقُ الْبَائِنُ عَلَى قِسْمَيْنِ: بَائِنٌ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى، وَبَائِنٌ بَيْنُونَةٌ كُبْرَى. فَأَمَّا الْبَائِنُ بَيْنُونَةٌ صُغْرَى فَيَكُونُ بِالطَّلْقَةِ
_________
(١) ابن عابدين ٣ / ٢٥٠، ٣ / ٢٧٨ - ٢٨١.
الْبَائِنَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِالطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ ثَلاَثًا، كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ بِهِ كُبْرَى مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ أَصْل كُلٍّ مِنَ الثَّلاَثِ بَائِنًا أَمْ رَجْعِيًّا بِالاِتِّفَاقِ.
فَإِذَا طَلَّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ رَجْعِيًّا حَل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِالرَّجْعَةِ، دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْعِدَّةُ عَادَ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَقَطْ.
فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً بَائِنَةً وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ جَازَ لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا كَانَتِ الْبَيْنُونَةُ كُبْرَى، وَلَمْ يَحِل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَتَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَدْخُل بِهَا، ثُمَّ تَبِينُ مِنْهُ بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ حَل لَهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ (١)، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (٢) .
الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى:
٣٨ - الْبَيْنُونَةُ عِنْدَ إِطْلاَقِهَا تَنْصَرِفُ
_________
(١) ابن عابدين ٣ / ٢٩٣، والدسوقي ٢ / ٣٨٥، ومغني المحتاج ٣ / ٣٩٦، والمغني ٧ / ٤١٧.
(٢) الآية / ٢٣٠ من سورة البقرة.