الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨ الصفحة 18

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨

وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ - كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ - يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ مَاضِيَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ: الصَّغَائِرُ، قَال الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَغَائِرَ، حُتَّتْ مِنْ كَبَائِرِ سَنَةٍ، وَذَلِكَ التَّحْتِيتُ مَوْكُولٌ لِفَضْل اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.

وَقَال الْبُهُوتِيُّ: قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ كَفَّارَةُ الصَّغَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صَغَائِرُ رُجِيَ التَّخْفِيفُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَبَائِرُ رُفِعَ لَهُ دَرَجَاتٌ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مُنْفَرِدًا عَنِ التَّاسِعِ، أَوْ عَنِ الْحَادِيَ عَشَرَ.

كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِفْرَادُ عَاشُورَاءَ بِالصَّوْمِ، وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.

قَال الْحَطَّابُ: قَال الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ صَوْمَ يَوْمٍ قَبْلَهُ وَيَوْمٍ بَعْدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ غَرِيبٌ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.

وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي حِكْمَةِ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ أَوْجُهًا:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال: صُومُوا يَوْمَ

عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا (١) .

الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْل يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ.

الثَّالِثُ: الاِحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلاَل وَوُقُوعِ الْغَلَطِ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ.

وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ صَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ، إِنْ لَمْ يَصُمِ التَّاسِعَ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: بَل نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ وَالإِْمْلاَءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الثَّلاَثَةِ (٢) .

ج - صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ:

٩ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ - وَهُوَ: الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - وَصَوْمُهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ: سَنَةً مَاضِيَةً، وَسَنَةً مُسْتَقْبَلَةً، رَوَى أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي

_________

(١) حديث: " صوموا يوم عاشوراء. . . ". أخرجه أحمد (١ / ٢٤١) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ / ١٨٨) وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام.

(٢) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (٣٥٠ ط دار الإيمان)، حاشية الدسوقي ١ / ٥١٦، مواهب الجليل ٢ / ٤٠٣، القليوبي وعميرة ٢ / ٢٧٣، المجموع (٦ / ٢٨٣ ط. المكتبة السلفية.) كشاف القناع ٢ / ٣٣٩.

قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ (١) .

قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ أَفْضَل الأَْيَّامِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ (٢) .

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ، وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا، وَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ لَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَخِلاَفُ الأَْوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَتْ أُمُّ الْفَضْل بِنْتُ الْحَارِثِ ﵄ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَ (٣) وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَصُمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (٤)، لأَِنَّهُ يُضْعِفُهُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ تَرْكُهُ أَفْضَل، وَقِيل: لأَِنَّهُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ وَزُوَّارُهُ.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُسَنُّ فِطْرُهُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُطْلَقًا، وَقَالُوا: يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِل عَرَفَةَ إِلاَّ لَيْلًا؛ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ.

_________

(١) حديث أبي قتادة: " صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر. . . ". أخرجه مسلم (٢ / ٨١٩) .

(٢) حديث: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه. . . ". أخرجه مسلم (٢ / ٩٨٣) من حديث عائشة.

(٣) حديث أم الفضل: " أنها أرسلت إلى النبي ﷺ. . . ". أخرجه البخاري (٤ / ٢٣٧) ومسلم (٢ / ٧٩١) .

(٤) حديث: " ابن عمر أنه حج مع النبي ﷺ ". أخرجه الترمذي (٢ / ١١٦) وقال: حديث حسن.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ لِلْحَاجِّ - أَيْضًا - إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَلاَ يُخِل بِالدَّعَوَاتِ، فَلَوْ أَضْعَفَهُ كُرِهَ لَهُ الصَّوْمُ (١) .

د - صَوْمُ الثَّمَانِيَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:

١٠ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الأَْيَّامِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّةِ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَل الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَْيَّامِ - يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ - قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال: وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ (٢) .

قَال الْحَنَابِلَةُ: وَآكَدُهُ الثَّامِنُ، وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ هَذِهِ الأَْيَّامِ لِلْحَاجِّ أَيْضًا. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِلْحَاجِّ. قَال فِي الْمُتْيَطِيَّةِ: وَيُكْرَهُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَصُومَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ تَطَوُّعًا. قَال الْحَطَّابُ: بِمِنًى

_________

(١) ابن عابدين ٢ / ٨٣، حاشية الدسوقي ١ / ٥١٥، مواهب الجليل ٢ / ٤٠٣، القليوبي وعميرة ٢ / ٧٣، مغني المحتاج ١ / ٤٤٦ كشاف القناع ٢ / ٣٣٩.

(٢) حديث ابن عباس: " ما من أيام العمل الصالح فيهن. . . ". أخرجه البخاري (٢ / ٤٥٩) .

يَعْنِي فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، يُسَمَّى عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ يَوْمَ مِنًى (١) .

هـ - صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ:

١١ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ صَوْمِ رَمَضَانَ، لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (٢) وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال النَّبِيُّ ﷺ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُنَّ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ تَمَامُ سَنَةٍ (٣) يَعْنِي: أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، الشَّهْرُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَالأَْيَّامُ السِّتَّةُ بِسِتِّينَ يَوْمًا، فَذَلِكَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ صَوْمَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ - بَعْدَ رَمَضَانَ - يَعْدِل صِيَامَ سَنَةٍ فَرْضًا، وَإِلاَّ فَلاَ يَخْتَصُّ ذَلِكَ

_________

(١) الفتاوى الهندية (١ / ٢٠١ ط. الأميرية ١٣١٠ هـ) حاشية الدسوقي ١ / ٥١٥، مغني المحتاج ١ / ٤٤٦، القليوبي وعميرة ٢ / ٧٣، كشاف القناع ٢ / ٣٣٨.

(٢) حديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال. . . ". أخرجه مسلم (٢ / ٨٢٢) .

(٣) حديث ثوبان: " صيام شهر رمضان بعشرة أشهر. . . ". أخرجه الدارمي (٢ / ٢١)، وإسناده صحيح.

بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، لأَِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا.

وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرَاهَةُ صَوْمِ سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، مُتَفَرِّقًا كَانَ أَوْ مُتَتَابِعًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: كَرَاهَتُهُ مُتَتَابِعًا، لاَ مُتَفَرِّقًا. لَكِنَّ عَامَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا.

قَال ابْنُ عَابِدِينَ، نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِهِ التَّجْنِيسِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، لأَِنَّ الْكَرَاهَةَ إِنَّمَا كَانَتْ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَكُونَ تَشَبُّهًا بِالنَّصَارَى، وَالآْنَ زَال ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاعْتَبَرَ الْكَاسَانِيُّ مَحَل الْكَرَاهَةِ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَأَمَّا إِذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ.

وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ صَوْمَهَا لِمُقْتَدًى بِهِ، وَلِمَنْ خِيفَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا، إِنْ صَامَهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً وَأَظْهَرَهَا، أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ سُنِّيَّةَ اتِّصَالِهَا، فَإِنِ انْتَفَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ اسْتُحِبَّ صِيَامُهَا.

قَال الْحَطَّابُ: قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ أَهْل الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَأَمَّا الرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ صِيَامُهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ تَحْصُل الْفَضِيلَةُ بِصِيَامِ السِّتَّةِ فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، وَتَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، لِظَاهِرِ الأَْخْبَارِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: اسْتِحْبَابُ صَوْمِهَا لِكُل أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَصَامَ رَمَضَانَ أَمْ لاَ، كَمَنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ أَوْ صِبًا أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ كَثِيرِينَ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَلَفْظِ الْحَدِيثِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا إِلاَّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ.

١٢ - كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَفْضَلِيَّةِ تَتَابُعِهَا عَقِبَ الْعِيدِ مُبَادَرَةً إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنَ الآْفَاتِ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ فِي الأَْفْضَلِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُسْتَحَبُّ السِّتَّةُ مُتَفَرِّقَةً، كُل أُسْبُوعٍ يَوْمَانِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَذَهَبُوا إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهَا مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مُتَتَابِعَةً، وَنَصُّوا عَلَى حُصُول الْفَضِيلَةِ وَلَوْ صَامَهَا فِي غَيْرِ شَوَّالٍ، بَل اسْتَحَبُّوا صِيَامَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ذَلِكَ أَنَّ مَحَل تَعْيِينِهَا فِي الْحَدِيثِ فِي شَوَّالٍ عَلَى

التَّخْفِيفِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، لاِعْتِيَادِهِ الصِّيَامَ، لاَ لِتَخْصِيصِ حُكْمِهَا بِذَلِكَ.

قَال الْعَدَوِيُّ: إِنَّمَا قَال الشَّارِعُ: (مِنْ شَوَّالٍ) لِلتَّخْفِيفِ بِاعْتِبَارِ الصَّوْمِ، لاَ تَخْصِيصَ حُكْمِهَا بِذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلاَ جُرْمَ إِنْ فَعَلَهَا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ مَا رُوِيَ فِي فَضْل الصِّيَامِ فِيهِ أَحْسَنُ، لِحُصُول الْمَقْصُودِ مَعَ حِيَازَةِ فَضْل الأَْيَّامِ الْمَذْكُورَةِ. بَل فِعْلُهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَسَنٌ أَيْضًا، وَالْحَاصِل: أَنَّ كُلَّمَا بَعُدَ زَمَنُهُ كَثُرَ ثَوَابُهُ لِشِدَّةِ الْمَشَقَّةِ (١) .

و صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ:

١٣ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اسْتِحْبَابِ كَوْنِهَا الأَْيَّامَ الْبِيضَ - وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُل شَهْرٍ عَرَبِيٍّ - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَكَامُل ضَوْءِ الْهِلاَل وَشِدَّةِ الْبَيَاضِ فِيهَا، لِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَصُمْ ثَلاَثَ

_________

(١) حاشية ابن عابدين ٢ / ١٢٥، بدائع الصنائع ٢ / ٧٨ (دار الكتاب العربي ١٩٧٤) الفتاوى الهندية (١ / ٢٠١ ط الأميرية ١٣١٠ هـ.) حاشية الدسوقي ١ / ٥١٧، الخرشي على خليل ٢ / ٢٤٣، ومواهب الجليل ٢ / ٤١٤ (مكتبة النجاح - ليبيا.)، مغني المحتاج ١ / ٤٤٧، كشاف القناع ٢ / ٣٣٧ (مكتبة النصر الحديث - الرياض.) . (الإنصاف ٣ / ٣٤٣ ط دار إحياء التراث العربي ١٩٨٠ م.) .

عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ (١) .

قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالأَْحْوَطُ صَوْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ مَعَهَا - أَيْضًا - لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ قَال: إِنَّهُ أَوَّل الثَّلاَثَةِ، وَيُسْتَثْنَى ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ يَجُوزُ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَيُبَدَّل بِالسَّادِسِ عَشَرَ مِنْهُ كَمَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ (٢) .

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الأَْيَّامِ الْبِيضِ، فِرَارًا مِنَ التَّحْدِيدِ، وَمَخَافَةَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا. وَمَحَل الْكَرَاهَةِ: إِذَا قَصَدَ صَوْمَهَا بِعَيْنِهَا، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الثَّوَابَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِصَوْمِهَا خَاصَّةً. وَأَمَّا إِذَا قَصَدَ صِيَامَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ فَلاَ كَرَاهَةَ.

قَال الْمَوَّاقُ: نَقْلًا عَنْ ابْنِ رُشْدٍ: إِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ صَوْمَهَا لِسُرْعَةِ أَخْذِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ، فَيَظُنُّ الْجَاهِل وُجُوبَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَصُومُهَا، وَحَضَّ مَالِكٌ - أَيْضًا - الرَّشِيدَ عَلَى صِيَامِهَا.

وَصَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُل بِصِيَامِهَا أَجْرُ صِيَامِ الدَّهْرِ بِتَضْعِيفِ الأَْجْرِ، الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ

_________

(١) حديث أبي ذر: " يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام. . . ". أخرجه الترمذي (٣ / ١٢٥) وقال: " حديث حسن ".

(٢) حاشية القليوبي على شرح المنهاج للمحلى ٢ / ٧٣.

أَمْثَالِهَا؛ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانَ ﵁: كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. قَال: قَال: وَهُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ (١) أَيْ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (٢) .

ز - صَوْمُ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ:

١٤ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ (٣) .

لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَال: إِنَّ أَعْمَال الْعِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ (٤)، وَلِمَا

_________

(١) حديث قتادة بن ملحان: " كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نصوم البيض. . . ". أخرجه أبو داود (٢ / ٨٢١) وفي إسناده اضطراب كما في مختصر السنن للمنذري (٣ / ٣٢٩ - ٣٣٠) .

(٢) حاشية ابن عابدين ٢ / ٨٣، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ٣٥٠، حاشية الدسوقي ١ / ٥١٧، مواهب الجليل ٢ / ٤١٤.

(٣) الطحطاوي على مراقي الفلاح ٣٥٠، بدائع الصنائع ٢ / ٧٩، حاشية الدسوقي ١ / ٥١٧، مغني المحتاج ١ / ٤٤٦، كشاف القناع ٢ / ٣٣٧.

(٤) حديث أسامة بن زيد أن النبي ﷺ كان يصوم الاثنين والخميس أخرجه أبو داود (٢ / ٨١٤) دون قوله: " وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " فأخرجه النسائي (٤ / ٢٠٢) وأعل المنذري في " مختصر السنن " (٣ / ٣٢٠) إسناد أبي داود، وحسن إسناد النسائي.