الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٤
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:
١٤ - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. (١)
وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالإِْرْسَال تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى. قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُول: إِنَّ الإِْرْسَال لاَ يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لأَِنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْل، بَل مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لاَ يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِل عَلَى الرَّفْعِ. وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ. وَلِذَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَل بِهِ. وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الأُْمَّةُ بِالْقَبُول. وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ ﵊ قَال لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ (٢) . كُل ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُول: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ
_________
(١) حديث: " ادرأوا الحدود بالشبهات " أخرجه السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص ٣٠ - ط السعادة)، ونقل السخاوي عن ابن حجر أنه قال: في سنده من لا يعرف.
(٢) حديث: " لعلك قبلت؟ أو غمزت أو نظرت؟ " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ١٣٥ - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
فَائِدَةَ. وَلَمْ يَقُل لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا قَال لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا قَال عَلِيٌّ ﵁ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَل مَوْلاَكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.
فَالْحَاصِل مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَال فِي دَرْئِهِ بِلاَ شَكٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الاِسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الاِحْتِيَال لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الإِْقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ. وَهَذَا هُوَ الْحَاصِل مِنْ هَذِهِ الآْثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلاَ يُعَوَّل عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لاَ. (١)
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ. تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
١٥ - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي
_________
(١) شرح فتح القدير ٥ / ٣٢.
الْفِعْل، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَل، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.
١ - الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْل:
١٦ - وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الاِشْتِبَاهِ.
وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيل دَلِيلًا. فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِل وَالْحُرْمَةُ، وَلاَ دَلِيل فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِل بَل ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيل دَلِيلًا، فَلاَ بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلاَ شُبْهَةَ أَصْلًا، لِفَرْضِ أَنْ لاَ دَلِيل أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَال: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.
ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْل تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلاَثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.
فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي
الاِسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلاَهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.
فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إِذَا ظَنَّ الْحِل يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَصَل فِي مَوْضِعِ الاِشْتِبَاهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَال: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِل لِي، فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ. وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْل وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لأَِنَّ الْفِعْل تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لاَ شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَل، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لاَ إِلَى الْمَحَل، فَكَأَنَّ الْمَحَل لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.
وَقِيل: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لإِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.
وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَل بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلاَقِ. وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَل مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلاَ يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ. وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْل مَهْرُ الْمِثْل.
٢ - الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:
١٧ - وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِل فِي الْمَحَل، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيل الْحِل، كَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (١) . فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ لأَِجْل شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَل وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الدَّلِيل الْمُثْبِتَ لِلْحِل قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.
فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلاَ يُحَدُّ، لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ ﵃ فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الأَْبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْل تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْل تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ
_________
(١) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٦٩ - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (٢ / ٢٥ - ط دار الجنان) .
الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ. وَزَادَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْل الاِسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لاِبْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ بَعْضَ الأَْئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ. قَال: وَالاِسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالاِقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَال: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا. وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَل إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.
٣ - شُبْهَةُ الْعَقْدِ:
١٨ - قَال بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.
وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى
مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لاَ حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ. فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلاَلًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَحَل الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ الأَْصْلِيِّ، وَكُل أُنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُل. وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِل حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لاَ الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.
وَالأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ "، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لأَِنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلاَفِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي
إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَل فَيَلْغُو؛ لأَِنَّ مَحَل التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِل هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا. وَإِلَيْهِ الإِْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ (١) وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ (٢) وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَل لاَ عِبْرَةَ فِيهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لاَ يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالاِشْتِبَاهِ. وَمَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ وَبِلاَ شُهُودٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُل. فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا
_________
(١) سورة النساء / ٢٢.
(٢) سورة الإسراء / ٣٢.
تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (١) .
ب - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
١٩ - قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الأَْجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالاِعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الإِْبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ. فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ. وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ. فَإِنَّ قَوْل
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ١٥٠ وما بعدها دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير ٥ / ٣٢ وما بعدها دار إحياء التراث العربي، تبيين الحقائق ٣ / ١٧٥ وما بعدها دار المعرفة، الفتاوى الهندية ٢ / ١٤٧ وما بعدها، المطبعة الأميرية ١٣١٠ هـ.
الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْل الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
فَهَذِهِ الثَّلاَثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ. غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْل مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُول السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ. وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلاَثًا قَبْل زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ. (١)
ج - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
٢٠ - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَل، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِل، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْل الاِسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ. فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ
_________
(١) الفروق للقرافي ٤ / ١٧٢، وتهذيب الفروق بهامشه ١ / ٢٠٢ دار المعرفة.