الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٣
طَعَامِهِ وَكَفَاهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُل، فَإِنْ أَبَى فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُرَوِّغْهَا ثُمَّ لِيُعْطِهَا إِيَّاهُ (١) .
قَال النَّوَوِيُّ: التَّرْوِيغُ أَنْ يَرْوِيَهَا دَسَمًا.
قَال: وَلْيَكُنْ مَا يُنَاوِلُهُ لُقْمَةً كَبِيرَةً تَسُدُّ مَسَدًّا، لاَ صَغِيرَةً تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلاَ تَقْضِي النَّهْمَةَ (٢) .
ج - الإِْحْسَانُ إِلَى الْعَبْدِ فِي الْمَلْبَسِ:
٣١ - وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَل لِبَاسَ عَبْدِهِ مِثْل مَلاَبِسِهِ هُوَ فِي الْجَوْدَةِ، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَفِيهِ: وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ.
د - أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُلاَءَمَةِ:
٣٢ - إِذَا سَاءَ الأَْمْرُ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَسَيِّدِهِ يَنْبَغِي لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ لِئَلاَّ يَسْتَمِرَّ أَذَاهُ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ لَمْ تُلاَئِمْ أَخْلاَقُ الْعَبْدِ أَخْلاَقَ سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ لاَءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَمَنْ لَمْ يُلاَئِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ، وَلاَ تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ (٣) .
_________
(١) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمه صنعة طعامه ". أخرجه أحمد (٢ / ٢٩٩ - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(٢) روضة الطالبين ٩ / ١١٦، ١١٧، والمغني ٧ / ٦٣٠، وكشاف القناع ٥ / ٤٨٩.
(٣) حديث: " من لاءمكم من مملوكيكم ". أخرجه أبو داود (٥ / ٣٦١ - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح وانظر عون المعبود ١٤ / ٦٧، وكشاف القناع ٥ / ٤٩١.
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ طَلَبَ الرَّقِيقُ الْبَيْعَ وَالسَّيِّدُ قَدْ وَفَّى بِحُقُوقِهِ لَمْ يُجْبَرِ السَّيِّدُ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَال أَبُو دَاوُدَ: قِيل لأَِحْمَدَ: اسْتَبَاعَتِ الْمَمْلُوكَةُ وَهُوَ يَكْسُوهَا مِمَّا يَلْبَسُ وَيُطْعِمُهَا مِمَّا يَأْكُل؟ قَال: لاَ تُبَاعُ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى زَوْجٍ فَتَقُول: زَوِّجْنِي.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ فِي الْعَبْدِ يُحْسِنُ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ وَهُوَ يَسْتَبِيعُ: لاَ يَبِيعُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ وَالْحَقَّ لَهُ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَبْدِ، كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى طَلاَقِ امْرَأَتِهِ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا، وَلاَ عَلَى بَيْعِ بَهِيمَتِهِ مَعَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا (١) .
هـ - أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ:
٣٣ - لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نَهَانَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ. . (٢)
وَأَنْ يُحْسِنَ فِي مُخَاطَبَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لاَ يُكَلِّفَهُ مُنَادَاتَهُ بِنَحْوِ " رَبِّي " بَل يَقُول: سَيِّدِي " وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُ السَّيِّدُ بِلَفْظِ " يَا عَبْدِي " " وَيَا أَمَتِي " بَل يَقُول: يَا فَتَايَ
_________
(١) المغني ٧ / ٦٣٣.
(٢) حديث: " نهانا النبي ﷺ أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء " أخرجه مسلم (٣ / ١٦٨٥ - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.
وَيَا فَتَاتِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: لاَ يَقُل أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ. وَضِّئْ رَبَّكَ. وَلْيَقُل: سَيِّدِي مَوْلاَيَ. وَلاَ يَقُل أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُل: غُلاَمِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي (١) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَبَوَّبَ لَهُ " بَابَ كَرَاهَةِ التَّطَاوُل عَلَى الرَّقِيقِ "، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَجَارِيَتِي
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَرْشَدَ ﷺ إِلَى مَا يُؤَدِّي الْمَعْنَى مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ، لأَِنَّ لَفْظَ الْفَتَى وَالْغُلاَمِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى مَحْضِ الْمِلْكِ كَدَلاَلَةِ الْعَبْدِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَال الْفَتَى فِي الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ الْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ (٢) .
و أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وَتَعْلِيمَهُ:
٣٤ - رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ (٣)
السُّلْطَانُ وَرِعَايَةُ الرَّقِيقِ:
٣٥ - عَلَى السُّلْطَانِ رِعَايَةُ الرَّقِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا
_________
(١) حديث: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك ". أخرجه البخاري (الفتح ٥ / ١١٧ - ط السلفية)، ومسلم (٤ / ١٧٦٥ - ط الحلبي) وأخرجه مسلم (٤ / ١٧٦٤) بالرواية الأخرى.
(٢) فتح الباري ٥ / ١٨٠.
(٣) حديث: " أيما رجل كانت عنده وليدة ". أخرجه البخاري (الفتح٩ / ١٢٦ - ط السلفية) ومسلم (١ / ١٣٥ - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
كَانَ السَّيِّدُ يُلْزِمُ رَقِيقَهُ بِخَرَاجٍ لاَ يُطِيقُهُ، مَنَعَهُ السُّلْطَانُ (١) . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُكَلِّفُهُ بِعَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ كُل سَبْتٍ إِلَى الْعَوَالِي فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي عَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا عَذَّبَ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ فِي حَقِّهِ مَا لاَ يَحِل لَهُ مِنْ مُثْلَةٍ، أَوْ جَرْحٍ أَوْ قَطْعٍ، أَلْزَمَهُ بِتَحْرِيرِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّحْرِيرَ، أَوْ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنِ التَّحْرِيرُ وَاجِبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ ﷺ ذَلِكَ.
وَلِلسُّلْطَانِ تَعْزِيرُ السَّيِّدِ فِي تِلْكَ الْحَال بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي التَّعْزِيرِ.
وَإِذَا قَذَفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ كَانَ لِلْعَبْدِ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيل: لَيْسَ لَهُ طَلَبُ التَّعْزِيرِ مِنْ سَيِّدِهِ (٢) .
وَإِذَا كَانَ السَّيِّدُ لاَ يُنْفِقُ عَلَى عَبِيدِهِ، أَوْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةً لاَ تَكْفِيهِمْ أَلْزَمَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَكَذَا إِذَا أَبَى تَزْوِيجَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِتَزْوِيجِهِمْ فَأَبَى، يُزَوِّجُهُمُ السُّلْطَانُ (٣) .
_________
(١) روضة الطالبين ٩ / ١١٩.
(٢) روضة الطالبين ٨ / ٣٢٧.
(٣) روضة الطالبين ٧ / ١٠٢.
تَصَرُّفَاتُ الْمَالِكِ فِي رَقِيقِهِ:
٣٦ - الرَّقِيقُ مِنْ جُمْلَةِ مَال السَّيِّدِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَل الْعَبْدَ أَوِ الأَْمَةَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، أَوْ عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ، أَوْ مَهْرًا لِزَوْجَتِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ.
إِلاَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقِيقِ لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ يَقْتَضِيهَا وَضْعُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ كَافِرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ:
أَوَّلًا: الْبَيْعُ (١):
بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ:
٣٧ - اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَاعِدَةِ فَسَادِ الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الْبَيْعِ وَلاَ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الَّذِي بَاعَهُ إِيَّاهُ، فَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمَشْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ عَائِشَةَ ﵂ اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عِتْقَهَا وَوَلاَءَهَا، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ شَرْطَ الْوَلاَءِ دُونَ شَرْطِ
_________
(١) يذكر أصحاب كتب القضاء وكتب الشروط ما يراعى عند كتابة عقد بيع الرقيق. انظر مثلًا أدب القضاء لابن أبي الدم الشافعي ص ٣٠١ - ٣٠٤ و٤٨٤ نشر جامعة دمشق (د. ت) وكتاب جواهر العقود للمنهاجي الأسيوطي.
الْعِتْقِ (١) .
ثُمَّ إِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدْ وَفَّى بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتِقْهُ فَقِيل: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ، وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَهْنًا فَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ فَاسِدًا، عَلَى أَصْلِهِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، لَكِنْ إِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ يَصِحُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال صَاحِبَاهُ: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلاَ يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا نُقِل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (٢) .
بَيْعُ الْعَبِيدِ أَوْ شِرَاؤُهُمْ سَلَمًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
٣٨ - يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُ الرَّقِيقِ سَلَمًا لإِمْكَانِ الضَّبْطِ بِالأَْوْصَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي السَّلَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الرَّقِيقِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ
_________
(١) حديث عائشة: " أنها اشترت بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح ٥ / ١٨٥ - ط السلفية) .
(٢) المغني ٤ / ٢٢٦، وروضة الطالبين ٣ / ٤٠١، وجواهر الإكليل ٢ / ٢٥، والهداية مع فتح القدير ٥ / ٢١٤، ٢١٧.
اخْتِلاَفًا فَاحِشًا بِالْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ، فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ (١) .
التَّفْرِيقُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ الأَْقَارِبِ:
٣٩ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلسَّيِّدِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ عَبْدٍ وَأُمِّهِ، أَوِ ابْنِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ عَمَّتِهِ، أَوْ خَالِهِ، أَوْ خَالَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ ﵁ قَال: أَمَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَال: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا إِلاَّ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةٍ رُدَّهُ رُدَّهُ (٢) . وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وَالأَْخِ وَأَخِيهِ (٣) .
_________
(١) المغني ٤ / ٢٨٢، وفتح القدير ٥ / ٣٢٧، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٢٥٢، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي ٣ / ٢٠٠ - ٢٠٤، وروضة الطالبين ٤ / ١٩.
(٢) حديث: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا ". أخرجه أحمد (١ / ٩٧ - ٩٨ - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (٤ / ١٠٧ - ط القدسي) وقال: " رجاله رجال الصحيح "، والرواية الأخرى أخرجها الترمذي (٣ / ٥٧٢ - ط الحلبي) .
(٣) حديث: " لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها، والأخ وأخيه ". أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٥٦ - ط الحلبي)، ونقل المناوي في الفيض (٥ / ٢٧٥ - ط المكتبة) عن الذهبي أنه قال: " فيه إبراهيم بن إسماعيل ضعفوه ".
قَالُوا: وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَالأَْخِ وَأَخِيهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ ذَاتِ الْمَحْرَمِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الدَّلاَلَةِ. وَلأَِنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ، وَفِي التَّفْرِيقِ قَطْعُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَلاَ يَدْخُل فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا لِحَدِيثِ " مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (١) " وَحَدِيثِ لاَ تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا (٢) .
وَالْمُحَرَّمُ عِنْدَهُمُ التَّفْرِيقُ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَجَعْل أَحَدِهِمَا عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ وَهِبَةِ الثَّوَابِ، وَمَا بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ كَالْقِسْمَةِ، لاَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ الْمَحْضَةِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ لِلأُْمِّ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالتَّفْرِيقِ جَازَ. وَسَوَاءٌ أَخْتَلَفَ دِينُ الأُْمِّ وَابْنِهَا، أَمِ اتَّفَقَ.
_________
(١) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه. . " أخرجه الترمذي (٣ / ٥١١ - ط الحلبي) من حديث أبي أيوب وحسنه.
(٢) حديث: " لا توله والدة عن ولدها ". أخرجه البيهقي (٨ / ٥ - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بكر، وضعفه ابن حجر في التلخيص (٣ / ١٥ - ط دائرة المعارف العثمانية) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ فِي الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيَلْحَقُ بِالأُْمِّ الأَْبُ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَوْا وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْمَحَارِمِ.
وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِهَادِ: لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَسَائِرِ الْمَحَارِمِ (١) .
هَذَا وَإِنَّ حُكْمَ التَّفْرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ يَسْتَمِرُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا دَامَ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دُونَ الْبُلُوغِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ كَسَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَإِنْ زَادَ كِلاَهُمَا عَنْ ذَلِكَ جَازَ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ ﵁ أَتَى أَبَا بَكْرٍ ﵁ بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَوَهَبَهَا لَهُ (٢) .
وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَارِيَةَ وَأُخْتَهَا سِيرِينَ، فَأَعْطَى سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ مَارِيَةَ لِنَفْسِهِ (٣) .
وَلأَِنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
_________
(١) المغني ٤ / ٢٦٦، والهداية وشروحها ٥ / ٢٤١، ٢٤٢ - ٢٤٥، وكفاية الطالب الرباني، والروضة للنووي ٤ / ٤١٥ و١٠ / ٢٥٨.
(٢) حديث سلمة بن الأكوع: " أنه أتى أبا بكر بامرأة وابنتها ". أخرجه مسلم (٣ / ١٣٧٦ - ط الحلبي) .
(٣) حديث: " أهدى المقوقس إلى النبي ﷺ مارية ". ذكره ابن سعد في الطبقات (٨ / ٢١٤ - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلًا.
وَالْعَادَةُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ، فَالْمَرْأَةُ تُزَوِّجُ ابْنَتَهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يُثْغِرَ الصَّغِيرُ، أَيْ تَنْبُتَ أَسْنَانُهُ بَعْدَ سُقُوطِ الرَّوَاضِعِ، فَإِنْ أَثْغَرَ جَازَ التَّفْرِيقُ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَمَنَامِهِ وَقِيَامِهِ (١) .
حُكْمُ الْبَيْعِ الَّذِي حَصَل بِهِ التَّفْرِيقُ:
٤٠ - الْبَيْعُ الَّذِي فُرِّقَ بِهِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ الْمُحَرَّمِ، عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ، إِذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ لِعَلِيٍّ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ أَخَوَيْنِ بِالْبَيْعِ: اذْهَبْ فَارْتَجِعْهُمَا وَإِنَّمَا يَجِبُ الاِرْتِجَاعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَفْسُدُ، لأَِنَّ النَّهْيَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَشَرَائِطِهِ، فَيُكْرَهُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ وَيَصِحُّ (٢) .
رَدُّ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ:
٤١ - الْعُيُوبُ هِيَ النَّقَائِصُ الْمُوجِبَةُ لِنَقْصِ الْمَالِيَّةِ فِي عَادَاتِ التُّجَّارِ، وَالْمَرْجِعُ فِي مَا أُشْكِل مِنْهُ
_________
(١) المغني ٤ / ٢٦٦، وفتح القدير ٥ / ٢٤٥، وكفاية الطالب وحاشية العدوي ٢ / ١٤٧.
(٢) فتح القدير ٦ / ٢٤٤، والروضة ١٠ / ٢٥٨.