الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢١ الصفحة 4

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢١

وَأَمَّا مَنْ قُتِل حَدًّا فَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلاَةِ (١) .

دَفْنُ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ:

١٧ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَفْنِ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الأَْحْوَطَ دَفْنُهَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُجْعَل ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّ وَجْهَ الْوَلَدِ لِظَهْرِهَا. وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، فَلاَ تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلاَ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لأَِنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ، فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ صُنْدُوقِ الْوَلَدِ، وَقِيل: فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ رَابِعٌ قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلَى طَرَفِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْل دِينِهَا؛ لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا (٢) .

وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ: قَال بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ

_________

(١) أسنى المطالب ٤ / ١٢٢، وروضة الطالبين ١٠ / ١٠٥.

(٢) روضة الطالبين ٢ / ١٣٥، والمغني ٢ / ٥٦٣.

الْمُشْرِكِينَ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي بَطْنِهَا، وَقَال وَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الأَْحْوَطُ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ. وَالظَّاهِرُ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِلاَّ دُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ (١) .

الْجُلُوسُ بَعْدَ الدَّفْنِ:

١٨ - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَيِّعُونَ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَال: اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآْنَ يُسْأَل (٢) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ﵄ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَال: اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ (٣) .

_________

(١) ابن عابدين (١ / ٥٧٧) .

(٢) حديث: " كان إذا فرغ من دفن الميت. . . " أخرجه أبو داود (٣ / ٥٥٠ - تحقيق عزت عبيد دعاس)، وجود إسناده النووي في المجموع (٥ / ٢٩٢ - ط المنيرية) .

(٣) ابن عابدين ١ / ٦٠١، وروضة الطالبين ٢ / ١٣٧، والمغني ٢ / ٥٠٥.

أُجْرَةُ الدَّفْنِ:

١٩ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ، وَلَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ مَجَّانًا، وَتُدْفَعُ مِنْ مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ؛ لأَِنَّهُ يَذْهَبُ بِالأَْجْرِ (١) .

دَفْنُ السِّقْطِ:

٢٠ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السِّقْطَ إِذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يَجِبُ أَنْ يُدْرَجَ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنَ (٢) .

دَفْنُ الشَّعْرِ وَالأَْظَافِرِ وَالدَّمِ:

٢١ - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ مَا يُزِيلُهُ الشَّخْصُ مِنْ ظُفْرٍ وَشَعْرٍ وَدَمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مِيل بِنْتِ مِشْرَحٍ الأَْشْعَرِيَّةِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَدْفِنُهُ وَيَقُول: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَل ذَلِكَ (٣) وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ

_________

(١) ابن عابدين ١ / ٥٧٦، وحاشية الدسوقي ١ / ٤١٣، وشرح الزرقاني ٢ / ٩٣، وجواهر الإكليل ١ / ١٠٨، ونهاية المحتاج ٦ / ٥ ط الحلبي، وكشاف القناع ٢ / ١٢٦.

(٢) ابن عابدين ١ / ٥٩٥، وشرح الزرقاني ٢ / ١١٢، وجواهر الإكليل ١ / ١١٦، وروضة الطالبين ٢ / ١١٧، والمغني ٢ / ٥٢٣.

(٣) حديث مثلة بنت مشرح الأشعرية: أخرجه ابن أبي قاسم وابن السكن وغيرهما، وإسناده ضعيف جدًا، كذا في الإصابة لابن حجر (٣ / ٤٢١ - ط السعادة) .

النَّبِيِّ ﷺ قَال: كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ (١) .

وَقَال أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَكَذَلِكَ تُدْفَنُ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ الَّتِي تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ (٢) .

دَفْنُ الْمُصْحَفِ:

٢٢ - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا صَارَ بِحَالٍ لاَ يُقْرَأُ فِيهِ، يُدْفَنُ كَالْمُسْلِمِ، فَيُجْعَل فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَيُدْفَنُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ لاَ يُوطَأُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَدَ لَهُ وَلاَ يُشَقَّ لَهُ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ إِلاَّ إِذَا جُعِل فَوْقَهُ سَقْفًا بِحَيْثُ لاَ يَصِل التُّرَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا. ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ بَلِيَ لَهُ مُصْحَفٌ، فَحَفَرَ لَهُ فِي مَسْجِدِهِ، فَدَفَنَهُ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَفَنَ الْمَصَاحِفَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ. أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ فَالأَْحْسَنُ كَذَلِكَ أَنْ تُدْفَنَ (٣) .

الْقَتْل بِالدَّفْنِ:

٢٣ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى

_________

(١) حديث: " كان يعجبه دفن الدم " أخرجه الخلال كما في المغني لابن قدامة (١ / ٨٨ - ط الرياض) وفي إسناده إرسال.

(٢) ابن عابدين ٥ / ٢٦٠، ونهاية المحتاج ١ / ٣٤١، وأسنى المطالب ١ / ٣١٣، وروضة الطالبين ٢ / ١١٧، وكشاف القناع ١ / ٧٦.

(٣) ابن عابدين ١ / ١١٩، والقليوبي ١ / ٣٦، وكشاف القناع ١ / ١٣٧.

قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ حَيًّا فَمَاتَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ (١) .

_________

(١) ابن عابدين ٥ / ٣٤٩، والشرح الصغير ٤ / ٣٣٩ وما بعدها، وروضة الطالبين ٩ / ١٢٥، ومطالب أولي النهى ٦ / ٨.

دَلِيلٌ

التَّعْرِيفُ:

١ - الدَّلِيل لُغَةً: هُوَ الْمُرْشِدُ وَالْكَاشِفُ، مِنْ دَلَلْتُ عَلَى الشَّيْءِ وَدَلَلْتُ إِلَيْهِ.

وَالْمَصْدَرُ دُلُولَةٌ وَدَلاَلَةٌ، بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا. وَالدَّال وَصْفٌ لِلْفَاعِل (١) .

وَالدَّلِيل مَا يُتَوَصَّل بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ وَلَوْ ظَنًّا، وَقَدْ يَخُصُّهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَطْعِيِّ.

وَلِذَلِكَ كَانَ تَعْرِيفُ أُصُول الْفِقْهِ بِأَنَّهُ " أَدِلَّةُ الْفِقْهِ " جَارِيًا عَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّل الْقَائِل بِالتَّعْمِيمِ فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيل بِمَا يَشْمَل الظَّنِّيَّ؛ لأَِنَّ أُصُول الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةِ تَشْمَل مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَا هُوَ ظَنِّيٌّ كَالْعُمُومَاتِ وَأَخْبَارِ الآْحَادِ وَالْقِيَاسِ وَالاِسْتِصْحَابِ. وَمِنْ هُنَا عَرَّفَهُ فِي الْمَحْصُول وَفِي الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ: " طُرُقُ الْفِقْهِ "؛ لِيَشْمَل الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ (٢) .

_________

(١) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " دلل ".

(٢) نهاية السول بهامش التقرير والتحبير ١ / ٨، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ / ٩، والمحصول ج ١ ق ١ / ٩٧، ١٠٥ - ١٠٦، وفواتح الرحموت ١ / ٢٠، والمعتمد ١ / ٩ - ١٠ و٢ / ٦٩٠.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الأَْمَارَةُ:

٢ - الأَْمَارَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلاَمَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى - كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا أَوْصَل إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ظَنِّيٍّ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الأَْمَارَةِ وَالدَّلِيل. وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ: الأَْمَارَةُ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ إِلَى الظَّنِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْلِيًّا أَمْ شَرْعِيًّا. أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالأَْمَارَاتُ الْعَقْلِيَّةُ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ (١) .

ب - الْبُرْهَانُ:

٣ - الْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ وَالدَّلاَلَةُ، وَيُطْلَقُ خَاصَّةً عَلَى مَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ لاَ مَحَالَةَ. وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَا فَصَل الْحَقَّ عَنِ الْبَاطِل، وَمَيَّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْفَاسِدِ بِالْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ (٢) .

ج - الْحُجَّةُ:

٤ - الْحُجَّةُ: الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ، وَهُوَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ.

وَالْحُجَّةُ الإِْقْنَاعِيَّةُ، هِيَ الَّتِي تُفِيدُ الْقَانِعِينَ

_________

(١) المعتمد ٢ / ٦٩٠، المحصول ج ١ ق ١ / ١٠٥ - ١٠٦.

(٢) الكليات للكفوي ١ / ٤٣٢، الفروق للعسكري ص ٦٢.

الْقَاصِرِينَ عَنْ تَحْصِيل الْمَطَالِبِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الْيَقِينِ بِالاِسْتِكْثَارِ (١) .

الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ:

٥ - الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ نَوْعَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَثِيرٌ جَمَعَهَا الْقَرَافِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الذَّخِيرَةِ، مِنْهَا: الاِسْتِحْسَانُ، وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَالْعُرْفُ، وَقَوْل الصَّحَابِيِّ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَإِجْمَاعُ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا (٢) . وَيُقْصَدُ بِالأَْحْكَامِ: الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالإِْبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ. وَالأَْحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ: كَالشَّرْطِ، وَالْمَانِعِ، وَالسَّبَبِ وَنَحْوِهَا (٣) .

الدَّلِيل الإِْجْمَالِيُّ وَالدَّلِيل التَّفْصِيلِيُّ:

٦ - عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ أُصُول الْفِقْهِ لَقَبًا بِأَنَّهُ " أَدِلَّةُ

_________

(١) الكليات للكفوي ٢ / ١٧٢.

(٢) الذخيرة ١ / ١٤١.

(٣) التلويح على التوضيح ١ / ٢٣، المستصفى ٢ / ٢٢٨، كشف الأسرار ٣ / ٢٦٨، الإحكام في أصول الأحكام ٣ / ١٨٦، نهاية السول ١ / ١٦ (مع شرح البدخشي) .

الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ " مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْضُوعَهُ الأَْدِلَّةُ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهِيَ الأَْدِلَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ أَدِلَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الأَْرْبَعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ الاِسْتِحْسَانُ، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْل الصَّحَابِيِّ، وَالاِسْتِصْلاَحُ. وَعِلْمُ أُصُول الْفِقْهِ يَبْحَثُ فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ دَلاَلَتِهَا عَلَى الأَْحْكَامِ.

وَالدَّلِيل إِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلًا إِجْمَالِيًّا، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا. وَمِثَال ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ (١)﴾ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ، وَأَنَّ الأَْمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، كَانَ دَلِيلًا إِجْمَالِيًّا.

وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ كَانَ دَلِيلًا تَفْصِيلِيًّا (٢) .

الدَّلِيل الْقَطْعِيُّ وَالدَّلِيل الظَّنِّيُّ:

٧ - تَنْقَسِمُ الأَْدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ وَالدَّلاَلَةُ:

١ - قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ

_________

(١) سورة البقرة / ٤٣.

(٢) جمع الجوامع بحاشية العطار ١ / ٤٥، الشرقاوي على التحرير ١ / ٢٦.

الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (١)﴾ .

٢ - وَقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ظَنِّيُّ الدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِي تَأْوِيلِهَا.

٣ - وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ قَطْعِيُّ الدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ ذَاتِ الْمَفْهُومِ الْقَطْعِيِّ.

٤ - وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا ظَنِّيٌّ (٢) .

وَرَتَّبَ أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ:

فَبِالْقِسْمِ الأَْوَّل يَثْبُتُ الْفَرْضُ، وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ، وَبِالْقِسْمِ الرَّابِعِ يَثْبُتُ الاِسْتِحْبَابُ وَالسُّنِّيَّةُ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ جَارٍ عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ. وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيل مَا تَقَدَّمَ: الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ فِي مَوَاضِعِهِ. وَكَذَلِكَ مُصْطَلَحُ: " اسْتِدْلاَل " " وَتَرْجِيح ".

_________

(١) سورة البقرة / ١٩٦.

(٢) كشف الأسرار ١ / ٨٤.