الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠ الصفحة 35

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠

التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ جَعَل لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُل بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ (١) .

اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:

١٠ - سَوَاءٌ حَصَل الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الآْخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِْجَازَةِ حِينَ اخْتِلاَفِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الإِْجَازَةِ لأَِصَالَتِهَا. وَالْفَسْخُ - كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ - مَقْصُودُ الْخِيَارِ (٢) .

وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لأَِنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلًا، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لاِبْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ " (٣) .

وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ حُصُول الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ

_________

(١) المجموع ٩ / ١٨٥، مغني المحتاج ٢ / ٤٥، نهاية المحتاج ٤ / ٨، المغني ٣ / ٤٨٦، الفروع ٤ / ٨٣.

(٢) مغني المحتاج ٢ / ٤٤، المجموع ٩ / ١٩١.

(٣) من القواعد الكلية التي صدرت بها المجلة المادة / ٥٢.

عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الآْخَرَ، فَالأَْثَرُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ (١) .

ثَالِثًا - التَّصَرُّفُ:

١١ - يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الأَْوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لاَ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي - أَوِ الْبَائِعِ - خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا (٢) .

وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلاَلَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الأَْثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ " الْمَنْهَجِ " عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَل قَائِلًا مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (٣) عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لاَ يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ

_________

(١) المجموع ٩ / ١٩١.

(٢) مغني المحتاج ٢ / ٤٥، المغني ٣ / ٤٩١.

(٣) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي ٤ / ٧ - ٨.

وَجْهَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ لاِخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الأَْوَّل، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ (١) .

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَل أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ. أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَال عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ (٢) .

أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالإِْجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ. . فَلاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لأَِنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ - وَأَمَّا الْمُشْتَرِي

_________

(١) شرح المنهج بحاشية الجمل ٣٣ / ١٠٦، وقد استوجه بعدئذ قيدًا على الإطلاق في إسقاط التصرف لخيار الشرط ٣ / ١١٩.

(٢) المغني ٣ / ٤٩١ م ٢٧٦٤، وكشاف القناع ٣ / ٢٠٩، وقد سوى بين صورتي البائع والمشتري في الإذن.

فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا (١) .

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:

١٢ - الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُل عَنْهُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْل التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْل إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ. وَعَلَى هَذَا الاِصْطِلاَحِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الاِنْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لاَ الإِْسْقَاطِ لَهُ. أَمَّا حُكْمُ هَذَا الإِْسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الآْرَاءُ التَّالِيَةُ:

الأَْوَّل: صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَبُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.

الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ (٢) .

_________

(١) المغني ٣ / ٤٩٠ م ٢٧٦٣، وكشاف القناع ٣ / ٢٠٨، ٢٠٩.

(٢) المغني ٣ / ٤٨٦ م ٢٧٥٧، كشاف القناع ٣ / ٢٠٠، الشرح الكبير على المقنع ٤ / ٦٤، المهذب والمجموع ٩ / ١٨٥ و١٩٠، مغني المحتاج ٢ / ٤٤، ونهاية المحتاج ٤ / ٨.

وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلاَهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ. فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ (١) .

وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْل الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (٢) . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَل التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلأَِنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْل التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلاَءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.

وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ

_________

(١) كشف القناع ٣ / ٢٠٠.

(٢) حديث: " فإن خير أحدهما الآخر " أخرجه مسلم (٣ / ١١٦٣ - ط الحلبي) . من حديث عبد الله بن عمر. والرواية الثانية أخرجها النسائي (٧ / ٢٤٨ - ط المكتبة التجارية) .

الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِل رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ. وَلأَِنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.

أَمَّا دَلِيل الْمَنْعِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْل ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْل تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْل ثُبُوتِهِ.

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.

أَمَّا دَلِيل جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُل وَحْدَهُ وَلاَ يُبْطِل الْعَقْدَ (١) .

أَسْبَابُ انْتِقَال الْخِيَارِ:

أَوَّلًا: الْمَوْتُ:

١٣ - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ:

_________

(١) المغني ٣ / ٤٨٥ - ٤٨٦ م ٢٧٥٧، والمجموع شرح المهذب ٩ / ١٨٥، مغني المحتاج ٢ / ٤٤، الشرح الكبير على المقنع ٤ / ٦٤ - ٦٥، كشاف القناع ٢ / ٤٤٥.

الأَْوَّل: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّالِثُ: التَّفْصِيل بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (١) .

اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ - بِالْمَوْتِ - إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، فِي انْتِقَال مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ (٢) . وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُل بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَزِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.

وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبْطَال الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِل بِشَخْصِ

_________

(١) مغني المحتاج ٢ / ٤٥، المجموع ٩ / ٢٠٦، الفروع ٤ / ٩١، المغني ٣ / ٤٨٦.

(٢) أخرجه البخاري (الفتح ١٢ ٢؟ / ٩ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١٢٣٧ - الحلبي)، من حديث أبي هريرة.

الْعَاقِدِ، وَانْتِقَال ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لاَ يُتَصَوَّرُ (١) . ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:

١٤ - إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَل الْخِيَارُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّل عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيل، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الاِنْتِظَارِ مُطْلَقًا (٢) .

وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلاَ كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الإِْجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْل، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، لأَِنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْل لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ (٣) .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُبْطِلُهُ، فَهُوَ

_________

(١) نهاية المحتاج ٤ / ٨، ومغني المحتاج ٢ / ٤٦، والمجموع ٩ / ٢٢٢، المغني ٣ / ٤٨٦، الفروع ٤ / ٩١، وفيه: وقيل: كخيار الشرط، أي: لا يورث إلا بمطالبة الميت به في وصيته.

(٢) حاشية الجمل على شرح المنهج ٣ / ١٠٨.

(٣) مغني المحتاج ٢ / ٤٦.

عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ (١) .

آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

١٥ - لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الأَْثَرَ الأَْصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الأُْخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُل الْخِيَارَاتِ. وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الأَْثَرُ الْعَامُّ)، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ. أَوَّلًا: الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ:

مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:

١٦ - مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُل التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْل ذَلِكَ.

وَهَذَا الأَْثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ (٢)،

_________

(١) الإقناع ٢ / ٨٤، مطالب أولي النهى ٣ / ٨٦، منتهى الإرادات ١ / ٣٥٧، منار السبيل ١ / ٣١٦، المغني ٣ / ٤٨٦، القواعد والفوائد الأصولين لابن اللحام البعلي ص ٣٦.

(٢) المجموع ٩ / ١٩١.

وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالاِسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ. وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَل الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.

ثَانِيًا: الآْثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:

انْتِقَال الْمِلْكِ

١٧ - هَذَا الأَْثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: فِقْدَانُ الأَْثَرِ:

وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ - (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ) (١) . وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَلاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا - مَعَ بَقَائِهِ قَابِلًا لِلْفَسْخِ - خِلاَل الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُول مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:

وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ - أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَال

_________

(١) المغني ٣ / ٤٨٨ م ٢٧٦٠، الفروع ٤ / ٨٦، كشاف القناع ٢ / ٥٠، المجموع ٩ / ٢٣٠، مغني المحتاج ٢ / ٤٤.