الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠
مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ (١) . وَبَعْضُ مَنْ لاَ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَهُ، بَل يَقْصِدُونَ حَالاَتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لاَ تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّل مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ (٢) .
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:
٢ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْل بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لاَزِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ (٣) .
_________
(١) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٣٢٨ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٦٤ - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام. وأخرج الرواية الأخرى: " المتبايعان بالخيار " البخاري (الفتح٤ / ٣٢٨ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٦٤ - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، والسياق للبخاري.
(٢) رد المحتار ٣ / ٣١٦.
(٣) المجموع ٩ / ١٦٩، المغني ٣ / ٤٨٢، والمحلى ٨ / ٤٠٩، نيل الأوطار ٥ / ١٩٧.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (١) . كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: الْمُتَبَايِعَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ (٢) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. أَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَل مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (٣) . وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا (٤) . وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
_________
(١) فتح القدير ٥ / ٨١، البدائع ٥ / ٢٢٨، الحطاب ٤ / ٣١٠، المحلى ٨ / ٤٠٩ م١٤١٧ نيل الأوطار ٥ / ١٩٧.
(٢) حديث " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٣٢٦، ٣٢٨، ٣٣٣ ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر برواياته.
(٣) المهذب ١ / ٢٥٧.
(٤) نصب الراية ٤ / ٣، وجامع الأصول ٢ / ٩ - ١٠.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ ﷺ خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَال لَهُ: اخْتَرْ، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الأُْخْرَى، أَنَّهُ ﵊ بَايَعَ رَجُلًا فَلَمَّا بَايَعَهُ قَال لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا الْبَيْعُ (١) .
وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُول، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ (٢) .
وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلاَئِل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (٣) فَهَذِهِ الآْيَةُ أَبَاحَتْ أَكْل الْمَال بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الأَْكْل فِي
_________
(١) حديث: " خير أعرابيًا بعد البيع ". أخرجه الترمذي (٣ / ٥٤٢ - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. والرواية الأخرى، أخرجها البيهقي (٥ / ٢٧٠ - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس.
(٢) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ٢ / ١٢٦، المجموع ٩ / ١٨٧.
(٣) سورة النساء / ٢٩.
الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (١) .
وقَوْله تَعَالَى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (٢) فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الآْيَةُ (٣) .
وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ ﷺ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (٤) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الاِسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.
كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ (٥)، حَيْثُ تَدُل عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الاِسْتِقَالَةِ (٦) .
وَحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَفِي
_________
(١) البدائع ٥ / ٢٢٨، فتح القدير ٥ / ٨١، المجموع ٩ / ١٨٤.
(٢) سورة المائدة / ١.
(٣) فتح القدير ٥ / ٨١، وبداية المجتهد ٢ / ١٤٠.
(٤) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٣٤٩ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٦٠ - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(٥) أخرج هذه الرواية أبو داود (٣ / ٧٣٦ تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٦) المجموع ٩ / ١٨٤.
رِوَايَةٍ: عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (١) وَالْقَوْل بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.
وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلاَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.
كَمَا قَاسُوا مَا قَبْل التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ (٢) .
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولًا، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ (٣) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَال. فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ
_________
(١) حديث: " المسلمون على شروطهم " وفي رواية: " عند شروطهم " أخرجه أبو داود (٤ / ٢٠ - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، والرواية الأخرى أخرجها (الدارقطني (٣ / ٢٧ - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (٣ / ٢٣ - ط شركة الطباعة الفنية) .
(٢) نيل الأوطار ٥ / ٢١٠، فتح القدير ٥ / ٨٢.
(٣) المجموع ٩ / ١٨٤.
بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالإِْبْطَال مِنْ غَيْرِ رِضَا الآْخَرِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الإِْقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ (١) .
زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
٣ - الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُول مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ.
أَمَدُ الْخِيَارِ:
٤ - أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ لإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُول بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِل مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ. فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الأَْمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ. فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لاِرْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.
وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لاَ يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ
_________
(١) البدائع ٥ / ٢٢٨، والعناية على الهداية ٥ / ٨١، وتبيين الحقائق للزيلعي ٤ / ٣.
بِالْعَقْدِ مَعَ طُول الْفَصْل. فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَل الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. لأَِنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ. وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ (١) .
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
٥ - أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ) . وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلًا، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لإِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.
أَوَّلًا: التَّفَرُّقُ:
٦ - يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (٢) .
ثَانِيًا - التَّخَايُرُ:
اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
٧ - مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُل ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ
_________
(١) المجموع ٩ / ١٨٠.
(٢) المجموع ٩ / ١٨٠، والمغني ٣ / ٥٠٧، ونهاية المحتاج ٤ / ٨، ومغني المحتاج ٢ / ٤٥، والمكاسب ٢٢٢.
كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولاَ: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ. وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ (١)، وَلَهُ نَظِيرُ الأَْثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.
الْخِلاَفُ فِي التَّخَايُرِ:
٨ - اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (٢) . مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلاَ تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَل الْمُسْقِطَ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الأُْخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الأَْمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا
_________
(١) ومن صور اختيار اللزوم أن يقولا: تخايرنا العقد.
(٢) المجموع ٩ / ١٩٠، شرح المنهج ٣ / ١٠٦، المغني ٣ / ٤٨٦ م ٢٧٥٧.
صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى (١) .
أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:
٩ - التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُل صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الأَْوَّل) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الأَْوَّل. بَل يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الآْخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لاَ يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَل هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ (٢) .
وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِذَا قَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِل؟
_________
(١) المغني ٤ / ٤٨٦.
(٢) نهاية المحتاج ٤ / ٨ بحاشية الشبراملسي، المجموع ٩ / ١٩١.
خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ (١) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ. وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الأَْوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِل خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُل الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ. فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالاِخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ (٢) .
وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يَثْبُتُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ (٣) .
خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:
أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: سُقُوطُ خِيَارِهِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - بِدَلاَلَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ
_________
(١) المهذب والمجموع ٩ / ١٨٥ و٩ / ١٩١.
(٢) المغني ٣ / ٤٨٦، منتهى الإرادات ١ / ٣٥٧، المقنع ٢ / ٣٤.
(٣) للشافعية نحو هذا الخلاف فيما لو (اختار) أحدهما إمضاء العقد وسكت الآخر. وهذه المسألة غير المذكورة آنفًا فتلك فيما لو (خير) صاحبه. . (المجموع ٩ / ١٩١) .