الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠ الصفحة 16

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠

الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لاَ يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَل غَلَطٌ، لأَِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ. (١)

وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الاِسْتِئْمَارِ خِلاَل وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلاَنًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ " لأَِنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ " وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْل الاِسْتِئْمَارِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ. (٢)

هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُول، لاَ يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ. (٣)

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ. قَال الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: " لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لأَِنَّهَا - أَيِ الْعَادَةَ - كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً "

فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ

_________

(١) البحر الرائق ٦ / ٦، والمجموع شرح المهذب ٩ / ١٩٢.

(٢) المغني لابن قدامة ٣ / ٥٢٦، والشرح الكبير على المقنع ٤ / ١٠٢، والمجموع شرح المهذب ٩ / ٢١٠ و٢١٢ - ٢١٣.

(٣) المغني ٥ / ٥٢٦، والمجموع ٩ / ٢١٣.

سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلاَ شَرْطٍ. (١)

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الأَْخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ (٢) .

شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:

٦ - لاَ يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الاِشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الاِعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَل شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لاَزِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ. غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:

أَوَّلًا: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:

٧ - الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُل اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لاَحِقًا بِهِ، لاَ أَنْ يَسْبِقَ الاِشْتِرَاطُ الْعَقْدَ. فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلاَ يُذْكَرُ قَبْل الْمَوْصُوفِ. وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا

_________

(١) حاشية العراقي على ابن سودة شرح منظومة الأحكام ١ / ٣٥، والمدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي ٤٧١.

(٢) المغني ٣ / ٥٠٧.

مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (١) عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ " لَوْ قَال: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ".

وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ. (٢)

ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ. وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمْ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِل بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيل هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ ﷿: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾ (٣) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ (٤): يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَال أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ - أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ. (٥)

_________

(١) الفتاوى الهندية ٣ / ٤٠، والمجموع للنووي ٩ / ١٩٤.

(٢) رد المحتار ٤ / ٥٤٤، المادة ٣٩ من مجلة الأحكام العدلية.

(٣) سورة النساء / ٢٤.

(٤) فتح القدير ٥ / ٤٩٨.

(٥) الفتاوى الهندية ٣ / ٣٩ نقلا عن المحيط، أيضًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ. وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْل الْمُتَعَاقِدَيْنِ. (١) وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الأُْجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لاَ يَصِحُّ.

وَبَيْن هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الاِشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ - وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل - بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ. . صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا. . كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَل الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.

وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْل انْتِقَادِهِ فَلاَ يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ

_________

(١) المغني ٣ / ٤٩٤م ٢٧٧١.

الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.

وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلاَل مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ " جَعْل الْخِيَارِ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِل لَهُ الْخِيَارُ لاَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ ". قَال الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الأَْوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا. (١)

ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:

٨ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِيهِ بِالتَّفْصِيل.

قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ

_________

(١) الدسوقي ٣ / ٩٣، ٩٤، ١٧٧، نقلا عن المدونة بالمعنى، ونص ما في المدونة: بمنزلة بيعك إياه الثمن من غيره (٤ / ١٧٧)، والخرشي على خليل ٤ / ٢١.

مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ (١) .

وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.

٩ - وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.

أَمَّا الْحَدُّ الأَْدْنَى فَلاَ تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لاَ يَقِل عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَل، لأَِنَّ جَوَازَ الأَْكْثَرِ يَدُل بِالأَْوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الأَْقَل، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ " وَلَوْ لَحْظَةً ".

قَال الْكَاسَانِيُّ: (أَقَل مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ) . وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ يُعْرَفُ (٢) .

وَأَمَّا الْحَدُّ الأَْقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الاِتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا - التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.

_________

(١) جاء في المدونة: " أرأيت لو أني بعت - أو اشتريت - من رجل سلعة، فلقيته بعد يوم أو يومين، فجعلت له الخيار - أو لي الخيار - أيامًا، أيلزم هذا الخيار أم لا؟ قال: نعم، ٤ / ١٧٧.

(٢) بدائع الصنائع ٥ / ٢١٣، والمجموع ٩ / ١٩٠.

الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:

١٠ - مُقْتَضَى هَذَا الاِتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَال: لاَ يُعْجِبُنِي الطَّوِيل. (١)

فَعِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الإِْطْلاَقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيل، وَلأَِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ. أَوْ يُقَال: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.

وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الأَْدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الإِْشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لاَ يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ. تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ " كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ " فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لاَ يَصِحَّ لإِفْضَائِهِ - عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا -

_________

(١) المجموع ٩ / ١٩٠، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص١٦، الأصل للإمام محمد تحقيق شحاتة ص٢ و٣، المبسوط ١٣ / ٤١، مختصر الطحاوي ٧٥، البحر الرائق ١ / ٥، الفتاوى الهندية ٣ / ٣٨، المقنع ٢ / ٣٥، المغني ٣ / ٤٩٨م ٢٧٧٩، مطالب أولي النهى ٣ / ٨٩، الفروع ٤ / ٨٣، منتهى الإرادات ١ / ٣٥٧.

إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ. (١)

الاِتِّجَاهُ الثَّانِي - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:

١١ - وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ. فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُل نَوْعٍ. (٢)

قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُل مَبِيعٍ. (٣)

وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ:

_________

(١) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى وحاشيته ٣ / ٨٩.

(٢) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي ٣ / ٩٥، والخرشي على خليل، وحاشية العدوي ٤ / ١٩، والحطاب على خليل، ٤ / ٤١٢، والقوانين الفقهية ص٢٦٣، ولباب اللباب لابن راشد، وبداية المجتهد لابن رشد ٢ / ٢٠٩.

(٣) بداية المجتهد ٢ / ٢١٠.

الْعَقَارُ:

١٢ - وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (٣٦) يَوْمًا. وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالأَْيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ. فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ) . أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.

الدَّوَابُّ:

١٣ - وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا

، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلاِخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ (١) عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ (٢) .

بَقِيَّةُ الأَْشْيَاءِ:

١٤ - وَتَشْمَل: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ.

_________

(١) البريد: سير نصف يوم بالسير المعتاد.

(٢) الدسوقي ٣ / ٩٢.

وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُل مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُول الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لاَ تَتَغَيَّرُ فِيهَا. (١)

الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ:

١٥ - وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. (٢)

وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. (٣)

وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ

_________

(١) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي عليه ٣ / ٩٣ - ٩٥، الخرشي على خليل بحاشية العدوي ٤ / ١٩ - ٢١.

(٢) البدائع ٥ / ١٧٤، والبحر الرائق ٦ / ٦، ورد المحتار ٤ / ٥٦٨، والفتاوى الهندية ٣ / ٣٨، والمبسوط ١٣ / ٤١، وفتح القدير ٥ / ١١١، والمجموع ٩ / ١٩٠، ونهاية المحتاج ٤ / ١٧.

(٣) الحديث تقدم تخريجه ف٤.