الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠ الصفحة 11

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠

لُزُومِ الْعَقْدِ مَا دَامَ عَارِيًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ حَقُّ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ.

فَخِيَارُ التَّعْيِينِ يَجْعَل ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ دُونَ تَخْصِيصٍ بِأَحَدِهَا وَلاَ مُجَاوَزَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الأَْشْيَاءَ الْمُخْتَارَ مِنْهَا كَانَ أَحَدُهَا مَبِيعًا مَضْمُونًا وَالْبَاقِي أَمَانَةً فِي يَدِهِ. (١)

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي شَأْنِ الإِْلْزَامِ بِالاِخْتِيَارِ وَالضَّمَانِ مَا يَلِي: إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الاِخْتِيَارِ وَلَمْ يَخْتَرْ (وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارُ التَّعْيِينِ مُجَرَّدًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ) يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (مَثَلًا)، لأَِنَّ ثَوْبًا قَدْ لَزِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا هُوَ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا شَرِيكًا.

وَمِثْل ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى ضَيَاعَهُمَا أَوْ ضَيَاعَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبَانِ آنَئِذٍ بِيَدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْبَيْعَ عَلَى اللُّزُومِ وَقَدْ قَبَضَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ، أَيْ إِلْزَامِ أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنَ الاِثْنَيْنِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ. وَلُزُومُ النِّصْفِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِكُل الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ فِي حَال مُرُورِ مُدَّةِ التَّعْيِينِ وَالاِمْتِنَاعِ

_________

(١) البدائع ٥ / ٢٦١، فتح القدير ٥ / ١٣٢ وفيهما تفصيلات وفروع في مسألة الضمان عند الهلاك.

عَنْهُ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَهُ عَلَى التَّعْيِينِ، بَل يُطَبِّقُونَ مُقْتَضَى شَرْطِ التَّعْيِينِ، وَإِرَادَتَهُ تَمَلُّكَ نِصْفِ مَحَل الْعَقْدِ أَوْ ثُلُثِهِ (١) .

تَبِعَةُ الْهَلاَكِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ:

١٥ - إِذَا هَلَكَ أَحَدُ الأَْشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ، وَتَعَيَّنَ الآْخَرُ لِلأَْمَانَةِ (حَتَّى إِذَا هَلَكَ الآْخَرُ بَعْدَ هَلاَكِ الأَْوَّل أَوْ تَعَيَّبَ لاَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ) وَهَذَا لأَِنَّ الْعَيْبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لاِعْتِبَارِ التَّعَيُّبِ اخْتِيَارًا ضَرُورَةً، (٢) وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهَا قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَإِنْ هَلَكَ الْكُل قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْبَيْعُ.

وَلَوْ هَلَكَ الشَّيْئَانِ مَعًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالأَْمَانَةِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنَ الآْخَرِ. (٣)

وَتَقَدَّمَ كَلاَمُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.

_________

(١) الدسوقي على شرح الكبير ٣ / ١٠٦ - ١٠٧، الخرشي ٤ / ٣٥، المقدمات ٢ / ٥٦٥.

(٢) البدائع ٥ / ٢٦٠، العناية شرح الهداية ٥ / ١٣٢ وناقش الإيراد بأنه ليس أقل من سوم الشراء وفيه تجب القيمة بأن ذاك مقبوض على جهة البيع وليس هذا كذلك.

(٣) فتح القدير ٥ / ١٣٢ - ١٣٣، وفيه تفصيلات كثيرة، البدائع ٥ / ٢٦١ - ٢٦٣.

تَوْقِيتُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

١٦ - يُشْتَرَطُ فِي الأَْرْجَحِ تَوْقِيتُ هَذَا الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ وُرُودِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا إِنْ تَضَمَّنَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَمُدَّةُ الْخِيَارِ صَالِحَةٌ لَهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى التَّعْيِينِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الآْخَرِ إِذَا مَاطَل مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ. قَال ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ: (وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مُؤَقَّتًا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ) . (١)

وَقَدْ سَبَقَ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُ مَا يَتَّصِل بِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّةِ، صِلَةُ هَذَا الْخِيَارِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.

سُقُوطُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

١٧ - تَوَارَدَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ (٢) .

وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ)

انْتِقَال خِيَارِ التَّعْيِينِ:

١٨ - خِيَارُ التَّعْيِينِ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ إِلَى وَارِثِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ

_________

(١) تبيين الحقائق للزيلعي ٤ / ٢١، فتح القدير ٥ / ١٣١، جامع الفصولين ١ / ٢٤٥.

(٢) الفتاوى الهندية ٣ / ٥٦، نقلًا عن الفتاوى الظهيرية، شرح المجلة للأتاسي ٢ / ٢٦١.

مَحَل الْخِيَارِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.

وَيَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدَّى حَال الْحَيَاةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ انْتَقَل إِلَيْهِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا بَل مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ مَثَلًا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِتَعْيِينِ مِلْكِهِ وَإِفْرَازِهِ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ. (١)

_________

(١) جامع الفصولين ١ / ٢٤٥، الفتاوى الهندية ٣ / ٥٥، البدائع ٥ / ٢٦٢.

خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ

التَّعْرِيفُ:

١ - الصَّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الْمَرَّةِ مِنَ الصَّفْقِ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ عَلَى يَدٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى يَدِ آخَرَ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْبَيْعَةِ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ ضَرَبَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدَهُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، فَمِنْ هُنَا اسْتُعْمِلَتِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنَى عَقْدِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، يُقَال: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ، وَمِنْهُ قَوْل عُمَرَ ﵁: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ، أَيْ بَيْعٌ بَاتٌّ أَوْ بَيْعٌ بِخِيَارٍ. هَذَا عَنِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا التَّفْرِيقُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ لأَِنَّ مَعْنَاهُ - أَوْ مَعَانِيَهُ - كُلَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَفْهُومَةٌ وَيَهُمُّنَا مِنْهَا الْمَعْنَى النَّاشِئُ عَنْ إِضَافَةِ لَفْظِ (تَفْرِيقٍ) إِلَى (الصَّفْقَةِ) وَهُوَ مُتَّحِدٌ مَعَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِهَذَا الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ. (١)

وَمَعْنَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ لاَ يَتَنَاوَل حُكْمُ الْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَنَاوَلَهُ ثُمَّ يَنْحَسِرُ عَنْهُ. فَتَكُونُ الصَّفْقَةُ الْوَاحِدَةُ

_________

(١) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي، والقاموس، والمعجم الوسيط، مادة " صفق ".

الْمُجْتَمِعَةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْ تَبَعَّضَتْ أَوْ تَجَزَّأَتْ وَبِكُل هَذِهِ الْمُتَرَادِفَاتِ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فَيُسَمُّونَهُ (تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ) أَوْ (تَبْعِيضَهَا) أَوْ (تَجَزُّؤَهَا) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - تَعَدُّدُ الصَّفْقَةِ:

٢ - التَّفْرِيقُ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَمْيِيزُ الصَّفْقَةِ عَنِ الصَّفْقَتَيْنِ يَسْتَبْهِمُ أَحْيَانًا لاَ سِيَّمَا فِي حَال الْجَمْعِ بَيْنَ سِلْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَيْسَ التَّعْوِيل عَلَى الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، بَل عَلَى حَقِيقَةِ التَّعَدُّدِ بِالاِعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدِ اعْتَنَى الشَّافِعِيَّةُ بِبَيَانِ ضَابِطِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ تَعَدُّدِهَا (١)

فَالصَّفْقَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ عَلَى شَيْئَيْنِ بِيعَا مَعًا، عِنْدَ الإِْيجَابِ مِنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَكَرَّرَ التَّفْصِيل فِي الْقَبُول، عَلَى الأَْصَحِّ، وَكَذَلِكَ تَتَعَدَّدُ الصَّفْقَةُ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ مُطْلَقًا، بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا، وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ قَوْل اثْنَيْنِ لِوَاحِدٍ: بِعْنَاكَ هَذَا بِكَذَا - وَالْمَبِيعُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا - فَقَبِل الْمُشْتَرِي فِيهِمَا، فَهُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ مَثَلًا. وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُول لاِثْنَيْنِ: بِعْتُكُمَا هَذَا بِكَذَا. أَوْ يَقُول اثْنَانِ

_________

(١) الاتحاد في الشيء، الانفراد، والاتحاد في الشيئين: الاجتماع ليصيرا شيئًا واحدًا.

لِوَاحِدٍ: اشْتَرَيْنَا مِنْكَ هَذَا بِكَذَا (١) .

فَالتَّفْرِيقُ الْمُسْتَوْجِبُ خِيَارًا هُوَ مَا يَقَعُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ فِي صَفْقَةٍ لَمْ يَتَعَدَّدْ عَاقِدُهَا مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ، وَلاَ فُصِّل فِيهَا الثَّمَنُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ.

ب - الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ:

٣ - الْمُرَادُ بِالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ: هُوَ جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا عَلَى أَقْوَالٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ) .

تَقْسِيمٌ وَأَحْكَامٌ مُوجَزَةٌ:

٤ - تَعَرَّضَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَوَصُّلًا لِحَالَةِ هَلاَكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَحَسْبُ، حِينَ عَدَّدُوا الْخِيَارَاتِ، فَلَمْ يُفْرِدُوهُ بِاسْمِ الْخِيَارِ بَل قَرَنُوا التَّفَرُّقَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. (٢) ثُمَّ اسْتَعْرَضُوا أَحْكَامَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ بِاسْتِقْصَاءٍ دُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْهُ خِيَارًا، بَل رَأَوْهُ عَيْبًا يَلْزَمُ عَنْ رَدِّ بَعْضِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَيَجِبُ حِمَايَةُ الْبَائِعِ مِنْ تَحَمُّلِهِ. (٣)

_________

(١) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني ٤ / ٣٣٠ - ٣٣١، ومغني المحتاج ٢ / ٤٢، والوجيز ٢ / ١٤٠، والمجموع شرح المهذب ٩ / ٤٣٢.

(٢) رد المحتار ٤ / ٤٦، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص٢٠٨، والبحر الرائق ٦ / ٣.

(٣) الفتاوى الهندية ٣ / ٨٣.

وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اخْتَلَفُوا بِحَالَةِ الاِسْتِحْقَاقِ وَتَنَاوَلُوا أَحْكَامَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.

وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: فِي الاِبْتِدَاءِ، أَوْ فِي الدَّوَامِ، أَوْ فِي اخْتِلاَفِ الأَْحْكَامِ. وَالَّذِي فِي الاِبْتِدَاءِ كُلُّهُ ذُو سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَعَكْسُهُ الَّذِي فِي الدَّوَامِ فَسَبَبُهُ حِسِّيٌّ. وَالتَّقْسِيمُ بِحَسَبِ السَّبَبِ أَلْيَقُ لِقِيَامِ الْخِيَارَاتِ بِطَرِيقَيْنِ، إِرَادِيٍّ وَحُكْمِيٍّ وَلِكَثْرَةٍ تَسْمِيَةِ الْخِيَارَاتِ بِأَسْبَابِهَا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي دَعَوْهُ " الاِخْتِلاَفَ فِي الأَْحْكَامِ " وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَقْدَيْنِ: بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَيْسَ قِسْمًا بِرَأْسِهِ بَل هُوَ تَقْسِيمٌ دَاخِلِيٌّ لِلتَّفْرِيقِ فِي الاِبْتِدَاءِ. وَلِذَا لَمْ يُبْرِزْهُ ابْنُ حَجَرٍ كَقِسْمٍ ثَالِثٍ بَل أَوْرَدَهُ بِصُورَةِ مَسَائِل، وَلَمْ يُدْرِكَ (الشَّرْوَانِيُّ) مُرَادَهُ فَنَبَّهَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى أَنَّهُ ثَالِثُ الأَْقْسَامِ. (١)

ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ صُوَرًا ثَلاَثًا لِلصَّفْقَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَحْدَةِ مُشْتَمَلاَتِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَلاَ صِلَةَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِالصُّورَةِ الأُْولَى، الَّتِي هِيَ بَيْعُ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ، أَمَّا الصُّورَتَانِ الأُْخْرَيَانِ فَهُمَا:

١ - بَيْعُ الْجَمِيعِ فِيمَا يَمْلِكُ بَعْضَهُ.

٢ - بَيْعُ الْمُتَقَوِّمِ مَعَ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.

وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ أَحْكَامُهُمَا وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ

_________

(١) مغني المحتاج ٢ / ٤٢، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني ٤ / ٣٣٠، المجموع ٩ / ٤٣٢.

ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَلِذَا لُوحِظَ أَحْيَانًا جَمْعُهُمَا تَحْتَ عِنْوَانٍ وَاحِدٍ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ، يُعَبَّرُ عَنْهُ أَحْيَانًا: (بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالإِْجْزَاءِ) .

وَالْمِثَالاَنِ الْمُهِمَّانِ هُمَا:

أ - بَيْعُ مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ.

ب - بَيْعُ خَلٍّ وَخَمْرٍ، وَنَحْوِهِمَا.

أَمَّا مَا لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَفِيهِ رِوَايَتَانِ لَدَى الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ كَمْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ، أَصَحُّهُمَا حِصَّةُ الْمَمْلُوكِ فَقَطْ إِذَا وَزَّعَ الْقِيمَتَيْنِ وَأَثْبَتُوا لَهُ الْخِيَارَ إِنْ صَحَّحُوا الْعَقْدَ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِالصِّحَّةِ فِي مِلْكِهِ، وَالتَّوَقُّفِ فِي الْبَاقِي عَلَى الإِْجَازَةِ. (١) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَالْقَوْل بِالْفَسَادِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَظْهَرُ. وَالْحُكْمُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا جُمِعَتْ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا الصِّحَّةُ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ عُقُودَ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ تُوجَدُ جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِيهَا ". (٢)

_________

(١) المغني ٤ / ٢١٢، مطالب أولي النهى ٣ / ٤٥، منتهى الإرادات ١ / ٣٤٧، المهذب والمجموع ٩ / ٤٢٥.

(٢) المغني ٤ / ٢١٣، المجموع ٩ / ٣٨٣ قال النووي " فإن قلنا: الواجب الثمن فلا خيار للبائع لأنه لا ضرر عليه، فإن قلنا بالقسط فوجهان أصحهما لا خيار له ".

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْل بِالصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَال فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ. وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِزَوَال مِلْكِهِ عَمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ.

وَجْهُ انْتِفَاءِ الْخِيَارِ فِي حَال الْعِلْمِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ، أَمَّا فِي حَال الْجَهْل فَالسَّبَبُ لِلْخِيَارِ قَائِمٌ " لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ " (١) .

ثُمَّ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ، أَوِ الإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّفْرِيقُ يُنْقِصُ الْقِسْمَ الْبَاقِيَ مِنَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تَقِل قِيمَتُهُ بِالْبَيْعِ مُنْفَرِدًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ وَزَوْجَيْ خُفٍّ. (٢)

وَأَحْيَانًا أُخْرَى بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالأَْجْزَاءِ، كَدَابَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الصِّحَّةُ فِي مِلْكِهِ فَقَطْ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالْفَسَادُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ - عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيهِمَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ. (٣)

وَمُسْتَنَدُ فَسَادِ الصَّفْقَةِ كُلِّهَا: أَنَّهَا جَمَعَتْ

_________

(١) المغني ٤ / ٢١٤، المجموع ٩ / ٤٣٠ ط٢.

(٢) منتهى الإرادات ١ / ٣٤٧، ومطالب أولي النهى ٣ / ٤٥.

(٣) المهذب للشيرازي والمجموع ٩ / ٤٢٥، والمغني ٤ / ٢١٢، ومطالب أولي النهى ٣ / ٤٥.