الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٦
الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، إِلاَّ أَنَّ الدَّبُوسِيَّ قَال: تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا، وَقَال صَدْرُ الإِْسْلاَمِ: إِنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ جَمِيعًا (١) .
ج - السَّفَهُ:
٤ - السَّفَهُ لُغَةً: نَقْصٌ فِي الْعَقْل، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ، يُقَال: تَسَفَّهَتِ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ: إِذَا اسْتَخَفَّتْهُ، وَحَرَّكَتْهُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: خِفَّةٌ تَبْعَثُ الإِْنْسَانَ عَلَى الْعَمَل فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْل وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْل حَقِيقَةً. قَال الْحَنَفِيَّةُ: فَالسَّفَهُ لاَ يُوجِبُ خَلَلًا، وَلاَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ (٢) .
وَقِيل السَّفَهُ صِفَةٌ لاَ يَكُونُ الشَّخْصُ مَعَهَا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ كَأَنْ يَبْلُغَ مُبَذِّرًا يُضَيِّعُ الْمَال فِي غَيْرِ وَجْهِهِ الْجَائِزِ، وَأَمَّا عُرْفًا: فَهُوَ بَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالنُّطْقُ بِمَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ. (٣)
وَفِي جَوَاهِرِ الإِْكْلِيل: السَّفِيهُ: الْبَالِغُ الْعَاقِل الَّذِي لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَال فَهُوَ خِلاَفُ الرَّشِيدِ. (٤)
_________
(١) ابن عابدين ٢ / ٤٢٦، ٤٢٧ ومجلة الأحكام م (٩٤٥) .
(٢) ابن عابدين ٢ / ٤٢٣، وكشف الأسرار ٤ / ٣٦٩، والمصباح المنير مادة: (سفه) .
(٣) القليوبي ٣ / ٣٦٤.
(٤) جواهر الإكليل ١ / ١٦١ ط دار المعرفة.
د - السُّكْرُ:
٥ - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السُّكْرِ:
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: السُّكْرُ نَشْوَةٌ تُزِيل الْعَقْل، فَلاَ يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنَ الأَْرْضِ، وَلاَ الرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّ تَعْرِيفَ السُّكْرِ بِمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي السُّكْرِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ، وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ فَهُوَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ كُلِّهِمْ: اخْتِلاَطُ الْكَلاَمِ وَالْهَذَيَانُ. (١) وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الشَّافِعِيِّ لِلسَّكْرَانِ: بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَطَ كَلاَمُهُ الْمَنْظُومُ، وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ. (٢)
وَقَال ابْنُ سُرَيْجٍ: الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعَادَةِ، فَإِذَا انْتَهَى تَغَيُّرُهُ إِلَى حَالَةٍ يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهَا عَادَةً اسْمُ السَّكْرَانِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِالسَّكْرَانِ، قَال الرَّافِعِيُّ وَهُوَ الأَْقْرَبُ. (٣)
وَقِيل: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ مِنِ امْتِلاَءِ دِمَاغِهِ مِنَ الأَْبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَعَطَّل مَعَهُ الْعَقْل الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الأُْمُورِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ. (٤)
_________
(١) ابن عابدين ٢ / ٤٢٣، وكشف الأسرار ٤ / ٢٦٣، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص ٢٨٧.
(٢) القليوبي ٣ / ٣٣٣، والأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢١٧.
(٣) الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢١٧، وابن عابدين ٢ / ٤٢٣، وكشف الأسرار ٤ / ٢٦٣، والقليوبي ٣ / ٣٢٣، ٣٣٣، وروضة الطالبين ٨ / ٦٢، ٦٣.
(٤) ابن عابدين ١ / ٩٧، والقليوبي ٣ / ٣٣٣.
هـ - الصَّرْعُ:
٦ - الصَّرْعُ لُغَةً: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، فَتَتَشَنَّجُ الأَْعْضَاءُ.
أَقْسَامُ الْجُنُونِ:
٧ - جَاءَ فِي كَشْفِ الأَْسْرَارِ: الْجُنُونُ يَكُونُ أَصْلِيًّا إِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ جُبِل عَلَيْهِ دِمَاغُهُ وَطُبِعَ عَلَيْهِ فِي أَصْل الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَبُول مَا أُعِدَّ لِقَبُولِهِ مِنَ الْعَقْل، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ.
وَيَكُونُ عَارِضًا: إِذَا زَال الاِعْتِدَال الْحَاصِل لِلدِّمَاغِ خِلْقَةً إِلَى رُطُوبَةٍ مُفْرِطَةٍ، أَوْ يُبُوسَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِلاَجِ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الأَْدْوِيَةِ. (١) وَالْجُنُونُ الأَْصْلِيُّ لاَ يُفَارِقُ الْعَارِضَ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ. (٢)
٨ - وَيَنْقَسِمُ الْجُنُونُ أَيْضًا إِلَى مُطْبِقٍ وَغَيْرِ مُطْبِقٍ:
وَالْمُرَادُ بِالْمُطْبِقِ الْمُلاَزِمُ الْمُمْتَدُّ. وَالاِمْتِدَادُ لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ عَامٌّ بَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَال: إِنَّ قَدْرَ الاِمْتِدَادِ الْمُسْقِطِ فِي الصَّلَوَاتِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبِصَيْرُورَتِهَا سِتًّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الشَّهْرِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَفِي الزَّكَاةِ
_________
(١) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٣.
(٢) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٦.
بِاسْتِغْرَاقِ الْحَوْل كُلِّهِ فِي الأَْصَحِّ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ مَا كَانَ أَقَل مِنْ ذَلِكَ.
فَالْجُنُونُ إِنْ كَانَ مُمْتَدًّا سَقَطَ مَعَهُ وُجُوبُ الْعِبَادَاتِ فَلاَ تُشْغَل بِهَا ذِمَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ وَهُوَ طَارِئٌ لَمْ يَمْنَعِ التَّكْلِيفَ وَلاَ يَنْفِي أَصْل الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ بِالذِّمَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَلِذَلِكَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ، وَكَانَ أَصْلِيًّا فَحُكْمُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حُكْمُ الْمُمْتَدِّ؛ لأَِنَّهُ نَاطَ الإِْسْقَاطَ بِالْكُل مِنَ الاِمْتِدَادِ وَالأَْصَالَةِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الطَّارِئِ فَيُنَاطُ الإِْسْقَاطُ بِالاِمْتِدَادِ (١) .
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الأَْهْلِيَّةِ:
٩ - الْجُنُونُ مِنْ عَوَارِضِ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ وَهُوَ يُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ؛ لأَِنَّ أَسَاسَ أَهْلِيَّةِ الأَْدَاءِ فِي الإِْنْسَانِ التَّمْيِيزُ وَالْعَقْل، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْل وَالتَّمْيِيزِ.
وَلاَ يُؤَثِّرُ الْجُنُونُ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِكُل إِنْسَانٍ، فَكُل إِنْسَانٍ أَيًّا كَانَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلْوُجُوبِ هِيَ حَيَاتُهُ الإِْنْسَانِيَّةُ.
وَمَا وَجَبَ عَلَى الْمَجْنُونِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ مِنْ وَاجِبَاتٍ مَالِيَّةٍ يُؤَدِّيهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ.
_________
(١) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٣، ٢٦٤ وما بعدها، وابن عابدين ١ / ٥١٦، وتيسير التحرير ٢ / ٢٦١.
فَإِذَا جَنَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ يُؤَاخَذُ مَالِيًّا لاَ بَدَنِيًّا، فَفِي الْقَتْل يَضْمَنُ دِيَةَ الْقَتِيل وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، لِقَوْل عَلِيٍّ ﵁: " عَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ " وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَال الْغَيْرِ. (١) وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ:
أ - فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ:
١٠ - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ. (٢) كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ كُل مَا يُبْطِل الْوُضُوءَ يُبْطِل التَّيَمُّمَ أَيْضًا. (٣)
ب - أَثَرُ الْجُنُونِ فِي سُقُوطِ الصَّلاَةِ:
١١ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِأَدَاءِ الصَّلاَةِ فِي حَال جُنُونِهِ، فَلاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى مَجْنُونٍ لاَ يُفِيقُ؛ لأَِنَّ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ تَفُوتُ بِزَوَال الْعَقْل. (٤) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
_________
(١) الاختيار ٥ / ٢٨، ٣ / ١٢٤، والقوانين الفقهية ص ٣٢٥، وروضة الطالبين ٤ / ١٧٧، وكشف الأسرار ٤ / ٢٦٣.
(٢) ابن عابدين ١ / ٩٧، وحاشية الدسوقي ١ / ١١٨ ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية ص ٢٩، وروضة الطالبين ١ / ٧٤، والمغني ١ / ١٧٢.
(٣) ابن عابدين ١ / ١٦٩، وحاشية الدسوقي ١ / ١٥٨، وروضة الطالبين ١ / ١١٥، والمغني ١ / ٢٧٢.
(٤) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٤، والاختيار ١ / ١٣٥، والقوانين الفقهية ص ٤٩، وروضة الطالبين ١ / ١٨٦ وما بعدها، والمغني ١ / ٤٠٠، وكشاف القناع ١ / ٢٢٣.
مَرْفُوعًا: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل (١) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا إِلَى أَنَّ مَنْ جُنَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ أَفَاقَ قَضَى الْخَمْسَ، وَإِنْ زَادَ الْجُنُونُ وَقْتَ صَلاَةٍ سَادِسَةٍ لاَ يَقْضِي؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَدْخُل فِي التَّكْرَارِ فَسَقَطَ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ إِذَا صَارَتِ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَدَخَل فِي السَّابِعَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُل بِهِ التَّكْرَارُ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَأَقَامَا الْوَقْتَ فِي دُخُول الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ مَقَامَ الصَّلاَةِ تَيْسِيرًا، فَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ. (٢)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجُنُونَ إِذَا ارْتَفَعَ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ سَقَطَتِ الصَّلاَتَانِ، هَذَا إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ
_________
(١) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . . " أخرجه أبو داود (٤ / ٥٦٠ ط عزت عبيد الدعاس) والحاكم (٢ / ٥٩ ط دار الكتاب العربي) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
(٢) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٦، ٢٦٧، وابن عابدين ١ / ٥١٢، والاختيار ١ / ٧٧.
الصَّلاَتَيْنِ. (١) وَإِنْ بَقِيَ مَا يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ إِلَى تَمَامِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَتِ الأَْخِيرَةُ وَسَقَطَتِ الأُْولَى، وَإِنْ بَقِيَ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِمِقْدَارِ رَكْعَةٍ مِنَ الصَّلاَةِ الأُْخْرَى وَجَبَتِ الصَّلاَتَانِ، وَإِنِ ارْتَفَعَ فِي وَقْتٍ مُخْتَصٍّ بِصَلاَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَتِ الْمُخْتَصَّةُ بِالْوَقْتِ. (٢)
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْكَلاَمَ فَقَالُوا: الْجُنُونُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ وَلَهُ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
١ - لاَ تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ الصَّلاَةُ وَلاَ قَضَاؤُهَا إِذَا اسْتَغْرَقَ الْوَقْتَ جَمِيعًا، قَل الْجُنُونُ أَوْ كَثُرَ.
٢ - أَنْ يُوجَدَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، وَيَخْلُوَ آخِرَهُ: فَيُنْظَرُ إِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ قَدْرَ رَكْعَةٍ، وَامْتَدَّتِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْجُنُونِ قَدْرَ إِمْكَانِ الطَّهَارَةِ، وَتِلْكَ الصَّلاَةُ، لَزِمَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ.
٣ - أَنْ يَخْلُوَ أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ أَوْسَطَهُ عَنِ الْجُنُونِ ثُمَّ يَطْرَأَ، فَفِي الْقَدْرِ الْمَاضِي مِنَ الْوَقْتِ: إِنْ كَانَ قَدْرًا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلاَةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلًا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ إِذَا أَدْرَكَ جَمِيعَ الْوَقْتِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاضِي
_________
(١) الوقت المشترك هو آخر وقت صلاة وأول وقت صلاة تالية يصلح لأداء إحداهما كالظهر والعصر يشتركان بقدر أربع ركعات في الحضر وركعتين في السفر (الدسوقي ١ / ١٧٧) .
(٢) القوانين الفقهية ص ٤٩.
مِنَ الْوَقْتِ لاَ يَسَعُ تِلْكَ الصَّلاَةَ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ. (١)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ يَقْضِي الْمَجْنُونُ الصَّلاَةَ إِذَا أَفَاقَ لِعَدَمِ لُزُومِهَا لَهُ، إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ فَيَصِيرُ كَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ. . . (٢) الْحَدِيثَ وَلأَِنَّ مُدَّتَهُ تَطُول غَالِبًا، فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ فَعُفِيَ عَنْهُ. (٣)
ج - أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الصَّوْمِ:
١٢ - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مُسْقِطٌ لِلصَّوْمِ إِذَا كَانَ مُطْبِقًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَمْتَدَّ إِلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ، وَهُوَ السَّبَبُ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَلِذَا فَلاَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ أَفَاقَ لَيْلًا أَمْ نَهَارًا؛ لأَِنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ، إِذِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. . .﴾ (٤) شُهُودُ بَعْضِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ
_________
(١) روضة الطالبين ١ / ١٨٦، ١٨٨ وما بعدها.
(٢) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " سبق تخريجه (ف ١١) .
(٣) المغني ١ / ٤٠٠، وكشاف القناع ١ / ٢٢٣، ٢٢٤.
(٤) سورة البقرة / ١٨٥.
شُهُودَ كُلِّهِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَأَنَّهُ خِلاَفُ الإِْجْمَاعِ. قَال فِي شَرْحِ كَشْفِ الأَْسْرَارِ: ذَكَرَ فِي الْكَامِل نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ، إِنَّهُ إِنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَصْبَحَ مَجْنُونًا، وَاسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ بَاقِيَ الشَّهْرِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّ اللَّيْل لاَ يُصَامُ فِيهِ، فَكَانَ الْجُنُونُ وَالإِْفَاقَةُ فِيهِ سَوَاءً، وَكَذَا لَوْ أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَصْبَحَ مَجْنُونًا.
وَفَرَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ أَصْلِيًّا وَمَا إِذَا كَانَ عَارِضًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ: لَيْسَ عَلَى الْمَجْنُونِ الأَْصْلِيِّ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنَ الأَْيَّامِ قَبْل إِفَاقَتِهِ فِي الأَْصَحِّ.
وَخُلاَصَةُ الْقَوْل: أَنَّهُ إِذَا اسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ فَفِيهِ الْخِلاَفُ الْمَذْكُورُ. (١)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَجْنُونَ لاَ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيل: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا كَثُرَ مِنَ السِّنِينَ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عِنْدَهُمْ وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ مَجْنُونًا لَمْ يَقْضِ بِخِلاَفِ مَنْ بَلَغَ صَحِيحًا ثُمَّ جُنَّ. (٢)
_________
(١) الاختيار ١ / ١٣٥، وابن عابدين ٢ / ١٢٣، ١٢٤، وكشف الأسرار ٤ / ٢٦٧.
(٢) القوانين الفقهية ص ١١٨.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، أَوِ الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي خِلاَل الشَّهْرِ. (١)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجُنُونَ حُكْمُهُ حُكْمُ الإِْغْمَاءِ، أَيْ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهُ. (٢)
د - أَثَرُ الْجُنُونِ فِي الْحَجِّ:
١٣ - الْجُنُونُ كَمَا سَبَقَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، فَالْمَجْنُونُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ أَدَاءُ أَفْعَال الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَلَمْ يُفِقْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ يُجْزِئْهُ، ثُمَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُحْرِمَ الْوَلِيُّ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَلَكِنْ لَوْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَجْنُونِ قَبْل طُرُوَّ جُنُونِهِ صَحَّ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَشَرْطُ الصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ الإِْسْلاَمُ وَلَيْسَ الْعَقْل، فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الْمَجْنُونِ. (٣) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) .
_________
(١) كشف الأسرار ٤ / ٢٦٤، وروضة الطالبين ٢ / ٣٦٦.
(٢) المغني ٣ / ٩٩.
(٣) الاختيار ١ / ١٤٠، وابن عابدين ٢ / ١٤٠، ١٤٧، ٢٣٩، ٢٤٠، وفتح القدير ٢ / ٣٢١، وحاشية الدسوقي ٢ / ٣، والقوانين الفقهية ص ١٣٢، والقليوبي ٢ / ٨٤، ٢ / ١١٥، ٢ / ٨٤، والجمل ٢ / ٣٧٥، ٣٧٧، وروضة الطالبين ٣ / ١٢، ١٣، والمغني ٢١٨، ٢١٩، ٢٤٩، ٤١٦، وكشاف القناع ٢ / ٣٧٨.