الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٨ الصفحة 5

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٨

سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (١)

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَوْ صَحْبِهِ. لِقَوْلِهِ ﷺ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا تَمَامًا.

وَلِلسُّنَّةِ إِطْلاَقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ بِهَا، مِنْهَا:

أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِمْ: الأَْوْلَى بِالإِْمَامَةِ الأَْعْلَمُ بِالسُّنَّةِ. وَمِنْهَا: مَا هُوَ أَحَدُ الأَْدِلَّةِ الأَْرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُول اللَّهِ - غَيْرَ الْقُرْآنِ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ. وَمِنْهَا: مَا يَعُمُّ النَّفَل، وَهُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ. (٢)

د - الْمَعْصِيَةُ:

٧ - الْعِصْيَانُ: خِلاَفُ الطَّاعَةِ يُقَال: عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلاَنٌ أَمِيرَهُ: إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ.

وَشَرْعًا: عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.

_________

(١) حديث: " من سن سنة حسنة. . . " سبق تخريجه (ف / / ٢) .

(٢) التهانوي ٣ / / ٧٠٣، ودستور العلماء ٢ / / ١٨٢ ط الأعلى للطباعة.

فَهِيَ إِمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، أَوْ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا.

وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِذَا اجْتُنِبَ الإِْصْرَارُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ (١) وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ تَشْمَل الْمَعْصِيَةَ، كَالْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَغَيْرَ الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ. (٢)

هـ - الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:

٨ - الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلاَحِ، أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمَصَالِحِ.

وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلاَحًا هِيَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ. الْخَمْسِ، كَمَا قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ ﵀، أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لاَ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الشَّاطِبِيِّ، أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْل فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ. أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الأَْمْرُ بِاعْتِبَارٍ

_________

(١) سورة النساء / / ٣١.

(٢) المغني لابن قدامة ٩ / / ١٦٧، وحاشية ابن عابدين ٤ / ٣٧٧، ومغني المحتاج ٤ / ٤٢٧.

مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُل الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلاَ إِلْغَائِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُلاَئِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، (١) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ الأُْخْرَى الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ) .

حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيُّ:

٩ - ذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَأَبُو شَامَةَ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالإِْمَامُ الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنِيفَةِ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلأَْحْكَامِ الْخَمْسَةِ إِلَى: وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ. (٢)

وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْقْسَامِ أَمْثِلَةً:

فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ: الاِشْتِغَال بِعِلْمِ النَّحْوِ، الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلاَمُ اللَّهِ وَكَلاَمُ رَسُولِهِ ﷺ لأَِنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلاَ يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَتَدْوِينُ الْكَلاَمِ فِي الْجَرْحِ

_________

(١) المستصفى ١ / / ٢٨٦ والاعتصام ٢ / / ٩٥، ومجموع فتاوى ابن تيمية ١١ / / ٣٤٢، وإرشاد الفحول ص ٢٤٢.

(٢) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ٢ / / ١٧٢ ط دار الكتب العلمية بيروت، ودليل الفالحين ١ / / ٤١٦، والحناوي للسيوطي ١ / / ٥٣٩ ط محيي الدين، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / / ٢٢ القسم الثاني ط المنيرية، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص ١٦ ط المنيرية، وحاشية ابن عابدين ١ / / ٣٧٦ ط بولاق، والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص ١٣ - ١٥ ط المطبعة العربية، والمنثور في القواعد ١ / / ٢١٨.

وَالتَّعْدِيل لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ؛ لأَِنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلاَ يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ: إِحْدَاثُ الْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ.

وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ (١) .

هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إِلَى بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

الْبِدْعَةُ فِي الْعَقِيدَةِ:

١٠ - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعَقِيدَةِ مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ تَصِل إِلَى الْكُفْرِ. فَأَمَّا الَّتِي تَصِل إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ أَنْ تُخَالِفَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيِّينَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى:

_________

(١) قواعد الأحكام ٢ / / ١٧٢، والفروق ٤ / ٢١٩، والمنثور في القواعد ١ / ٢١٩.

﴿مَا جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ (١) وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَْنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ (٢) وَحَدَّدُوا كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ: أَنْ يَتَّفِقَ الْكُل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كُفْرٌ صُرَاحٌ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ (٣) .

الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ حَرَامًا وَمَعْصِيَةً، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا.

أ - الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ:

١١ - وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّل وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْجِمَاعِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ. لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي حَدِيثِ الرَّهْطِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَال أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْل أَبَدًا، وَقَال الآْخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَال الآْخَرُ: أَنَا أَعْتَزِل النِّسَاءَ فَلاَ

_________

(١) سورة المائدة / ١٠٣.

(٢) سورة الأنعام / ١٣٩.

(٣) قواعد الأحكام ٢ / ١٧٢، والاعتصام ٢ / ٣١، ٣٢.

أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ ﷺ فَقَال: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ. لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. (١)

ب - الْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ:

١٢ - قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، مِثْل الاِجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِيهَا (٢)، وَذِكْرِ السَّلاَطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِلتَّعْظِيمِ، أَمَّا لِلدُّعَاءِ فَسَائِغٌ، وَكَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ (٣) . جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَال: أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُول: كُبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، قَال عَبْدُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَجَاءَ - وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا - فَقَال أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ،

_________

(١) حديث: " وجاء ثلاثة رهط. . . " أخرجه البخاري (الفتح ٩ / ١٠٤ - ط السلفية) ومسلم (٢ / ١٠٢٠ـ ط الحلبي) .

(٢) البدع والنهي عنها للوضاح القرطبي ص ٤٦، ٤٧ ط الاعتدال دمشق ١٣٤٩هـ.

(٣) قواعد الأحكام ٢ / ١٧٢، والاعتصام ٢ / ٣١، ٣٢، وإنكار البدع والحوادث ص ٢٥، ٢٣.

وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ عِلْمًا. فَقَال عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. فَقَال عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّنَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا (١) .

الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ:

١٣ - الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ مِنْهَا الْمَكْرُوهُ، كَالإِْسْرَافِ فِي الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، مِثْل التَّوَسُّعِ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الأَْكْمَامِ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ اخْتِيَالٍ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الاِبْتِدَاعَ فِي الْعَادَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعِبَادَاتِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَازَتِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الاِبْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ لَوَجَبَ أَنْ تُعَدَّ كُل الْعَادَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الأَْوَّل - مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ وَالْمَسَائِل النَّازِلَةِ - بِدَعًا مَكْرُوهَاتٍ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقُل أَحَدٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَادَاتِ الَّتِي بَرَزَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الأَْوَّل مُخَالِفَةٌ لَهُمْ؛ وَلأَِنَّ الْعَادَاتِ مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ مَعَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. (٢)

دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا:

١٤ - دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا وَبَوَاعِثُهَا كَثِيرَةٌ

_________

(١) تلبيس إبليس ١٦ - ١٧ ط النهضة، والآداب الشرعية ٢ / ١١٠ ط الرياض، وإنكار البدع والحوادث لأبي شامة ص ٢٣.

(٢) قواعد الأحكام ٢ / ١٧٢، ١٧٣، والاعتصام للشاطبي ٢ / ٣١، ٣٢

وَمُتَعَدِّدَةٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا؛ لأَِنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الأَْحْوَال وَالأَْزْمَانِ وَالأَْمْكِنَةِ وَالأَْشْخَاصِ، وَأَحْكَامُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَالاِنْحِرَافُ عَنْهَا وَاتِّبَاعُ سُبُل الشَّيْطَانِ فِي كُل حُكْمٍ مُتَعَدِّدُ الْوُجُوهِ. وَكُل خُرُوجٍ إِلَى وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِل الْبَاطِل لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ. وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْمُمْكِنِ إِرْجَاعُ الدَّوَاعِي وَالأَْسْبَابِ إِلَى مَا يَأْتِي:

أ - الْجَهْل بِوَسَائِل الْمَقَاصِدِ:

١٥ - أَنْزَل اللَّهُ ﷾ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لاَ عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَارٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ (١) . وَقَال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ (٢) وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لاَ تُفْهَمُ إِلاَّ إِذَا فَهِمَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ (٣) وَالإِْخْلاَل فِي ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْبِدْعَةِ.

ب - الْجَهْل بِالْمَقَاصِدِ:

١٦ - مَا يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلاَ يَجْهَلَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَمْرَانِ:

(١) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً تَامَّةً لاَ نَقْصَ فِيهَا وَلاَ زِيَادَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَال

_________

(١) سورة يوسف / ٢.

(٢) سورة الزمر / ٢٨.

(٣) سورة الرعد / ٣٧.

لاَ بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ بِهَا ارْتِبَاطَ ثِقَةٍ وَإِذْعَانٍ، فِي عَادَاتِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَمُعَامَلاَتِهَا، وَأَلاَّ يَخْرُجَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا الأَْمْرُ أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعَةُ فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الشَّرْعِ، وَكَذَبُوا عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ. وَقِيل لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَى رَسُول اللَّهِ وَإِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَعْرُوفِ بِالأُْرْدُنِّيِّ، أَنَّهُ قَال: إِذَا كَانَ الْكَلاَمُ حَسَنًا لَمْ أَرَ فِيهِ بَأْسًا، أَجْعَل لَهُ إِسْنَادًا إِلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ.

(٢) أَنْ يُوقِنَ إِيقَانًا جَازِمًا أَنَّهُ لاَ تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَبَيْنَ الأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَِنَّ النَّبْعَ وَاحِدٌ، وَمَا كَانَ الرَّسُول ﷺ يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وَإِنَّ قَوْمًا اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الأَْمْرُ لِجَهْلِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الرَّسُول بِقَوْلِهِ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.

فَيَتَحَصَّل مِمَّا قَدَّمْنَا كَمَال الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ التَّضَادِّ بَيْنَ نُصُوصِهَا.

أَمَّا كَمَال الشَّرِيعَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا﴾ (١) .

وَأَمَّا عَدَمُ التَّضَادِّ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَدَبِّرَ لاَ يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلاَفًا؛ لأَِنَّ

_________

(١) سورة المائدة / ٣.

الاِخْتِلاَفَ مُنَافٍ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ (١) ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ . (٢)

ج - الْجَهْل بِالسُّنَّةِ:

١٧ - مِنَ الأُْمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْجَهْل بِالسُّنَّةِ.

وَالْجَهْل بِالسُّنَّةِ يَعْنِي أَمْرَيْنِ:

الأَْوَّل، جَهْل النَّاسِ بِأَصْل السُّنَّةِ.

وَالثَّانِي: جَهْلُهُمْ بِالصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الأَْمْرُ.

أَمَّا جَهْلُهُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجْعَلُهُمْ يَأْخُذُونَ بِالأَْحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ. وَقَدْ وَرَدَتِ الآْثَارُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (٣) وَقَوْل رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (٤) .

_________

(١) الاعتصام ٢ / ٢٦٨، والفخر الرازي ١٠ / ١٩٦، ١٩٧.

(٢) سورة النساء / ٨٢.

(٣) سورة الإسراء / ٣٩.

(٤) حديث: " من كذب على معتمدا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ١ / ٢٠٢ ط السلفية) من حديث أبي هريرة، ومسلم (٤ / ٢٢٩٨، ٢٢٩٩ ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.