الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٥ الصفحة 2

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٥

الْمُرْتَدَّ كَفَرَ بِرَبِّهِ بَعْدَ مَا هُدِيَ لِلإِْسْلاَمِ وَوَقَفَ عَلَى مَحَاسِنِهِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ.

ب - مُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ:

وَهَؤُلاَءِ لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَالْقُرْآنُ نَزَل بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، وَلِذَلِكَ لاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.

ج - مُشْرِكُونَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ:

وَهَؤُلاَءِ لاَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرِ مَذْهَبِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَلاَ يُقْبَل مِنْهُمْ إِلاَّ الإِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (١) وَقَوْلُهُ ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا (٢) وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةً عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ تُقْبَل مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ، فَيَجُوزُ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (٣) .

إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِلْمُشْرِكِ:

١١ - أَجَازَ الْعُلَمَاءُ إِعْطَاءَ الأَْمَانِ لِلْمُشْرِكِ؛ لِيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ

_________

(١) سورة التوبة / ٩.

(٢) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . . " سبق تخريجه (ف / ٧) .

(٣) حاشية ابن عابدين ٣ / ٢٧٨، والهداية ٢ / ١٦٠، وحاشية الدسوقي ٢ / ٢٠١، ومغني المحتاج ٤ / ٢٤٤، وروضة الطالبين ١٠ / ٣٠٥.

مَأْمَنَهُ﴾ (١) قَال الأَْوْزَاعِيُّ: هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. كَمَا أَجَازُوهُ لِلرُّسُل؛ لأَِنَّ الرَّسُول ﷺ كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُل الْمُشْرِكِينَ، وَقَال لِرَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ: لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُل لاَ تُقْتَل لَقَتَلْتُكُمَا. (٢)

وَيَكُونُ الأَْمَانُ مِنَ الإِْمَامِ، لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَامَّةٌ، وَمِنَ الأَْمِيرِ لِمَنْ يُوجَدُ بِإِزَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ لِحَدِيثِ الرَّسُول ﷺ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَل مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. (٣) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مُسْتَأْمَنٌ) (٤) .

صَيْدُ الْمُشْرِكِ وَذَبِيحَتُهُ:

١٢ - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ وَذَبِيحَتِهِ إِلاَّ مَا لاَ ذَكَاةَ لَهُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبَاحَتِهِ.

وَحُكْمُ سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ وَالزَّنَادِقَةِ وَغَيْرِهِمْ حُكْمُ الْمَجُوسِ فِي تَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِمْ

_________

(١) سورة التوبة / ٩.

(٢) حديث: " لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما " أخرجه أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي بلفظ مقارب، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري. وقال صاحب الفتح الرباني: سنده جيد (مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٤٨٧، ٤٨٨) نشر المكتب الإسلامي ١٣٩٨ هـ، وعون المعبود ٣ / ٣٨ ط الهند، والفتح الرباني: ١٤ / ٦٢ الطبعة الأولى ١٣٧٠ هـ.

(٣) حديث: " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم. . . . . " أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب ﵁ مرفوعا (فتح الباري ٦ / ٢٧٩، ٢٨٠ ط السلفية) .

(٤) ابن عابدين ٣ / ٢٢٧، والمغني ٨ / ٣٩٨، والجمل ٥ / ٢٠٥، ٢٠٦، ٢٠٧، وقليوبي ٤ / ٢٢٦، والدسوقي ٢ / ١٨٤، ١٨٥، وجواهر الإكليل ١ / ٢٥٧، ٢٥٨، وبدائع الصنائع ٩ / ٤٣٢١ ط الإمام.

وَصَيْدِهِمْ إِلاَّ مَا لاَ ذَكَاةَ لَهُ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، لِقَوْلِهِ ﷺ أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ (١) وَقَال فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِل مَيْتَتُهُ. (٢)

كَمَا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى حِل صَيْدِ الْكِتَابِيِّ وَذَبِيحَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا

_________

(١) حديث: " أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد " أخرجه ابن ماجه واللفظ له وأحمد والشافعي وعبد بن حميد والدارقطني وابن عدي وابن مردويه من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا، وقال ابن حجر: إسناده ضعيف. وأخرجه البيهقي موقوفا على عبد الله بن عمر وقال: هذا إسناد صحيح وهو في معنى المسند، وصوب الدارقطني أيضا وقفه. قال النووي: هو وإن كان الصحيح وقفه في حكم المرفوع، إذ لا يقال من قبل الرأي (سنن ابن ماجه ٢ / ١٠٧٣ ط عيسى الحلب والدارقطني ٤ / ٢٧١، ٢٧٢ ط دار المحاسن للطباعة، والسنن الكبرى للبيهقي ١ / ٢٥٤، ٩ / ٢٥٧ ط دائرة المعارف العثمانية بالهند، والدراية في تخريج أحاديث الهداية ١ / ٢١٢ ط مطبعة الفجالة الجديدة ١٣٨٤ هـ، وفيض القدير ١ / ٢٠٠ نشر المكتبة التجارية ١٣٥٦ هـ.) .

(٢) رد المحتار على الدر المختار الشهير بابن عابدين ٥ / ١٨٩، والكافي ١ / ٦٤٧ ط المكتب الإسلامي، والمغني ٨ / ٥٦٧، ٥٧٠، والدسوقي على الشرح الكبير ٢ / ١٠٣، ونهاية المحتاج ٨ / ١٠٦ ط المكتب الإسلامي - دمشق. وحديث: " هو الطهور ماؤه. . . . . " روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث جابر، ومن حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث أنس، ومن حديث عبد الله بن عمرو، ومن حديث الفراسي، ومن حديث أبي بكر ﵃. أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الترمذي والنسائي وأبو داود وسنن النسائي ١ / ١٧٦ ط المطبعة المصرية بالأزهر، وعون المعبود ١ / ٣١، ٣٢ ط الهند، وسنن ابن ماجه بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ١ / ١٣٦ ط عيسى الحلبي، ونصب الراية / ٩٥، ٩٦ ط دار المأمون، والتلخيص الحبير ١ / ٩ - ١٢ ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .

الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ (١) قَال الْبُخَارِيُّ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَهْل الْعِلْمِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ الأَْسَدِيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ بِفَارِسٍ مِنَ النَّبَطِ، فَإِذَا اشْتَرَيْتُمْ لَحْمًا فَإِنْ كَانَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَكُلُوا، وَإِنْ كَانَ ذَبِيحَةَ مَجُوسِيٍّ فَلاَ تَأْكُلُوا (٢) وَلِلتَّفْصِيل ر - (صَيْدٌ، ذَبَائِحُ) .

الأَْشْرِبَةُ

التَّعْرِيفُ:

١ - الأَْشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ، وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ. وَكُل شَيْءٍ لاَ مَضْغَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ: يُشْرَبَ (٣) .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الأَْشْرِبَةُ عَلَى مَا كَانَ مُسْكِرًا مِنَ الشَّرَابِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَّخَذًا مِنَ الثِّمَارِ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالتِّينِ، أَوْ مِنَ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ أَوْ

_________

(١) سورة المائدة / ٥.

(٢) حديث: " إنكم نزلتم بفارس من النبط، فإذا اشتريتم لحما. . . . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن طريق قيس بن سكن من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ موقوفا عليه بلفظ ": " إنكم نزلتم أرضا لا يقصب بها المسلمون، إنما هم النبط - أو قال: النبيط - وفارس، (المصنف ٤ / ٤٨٧ - ٤٨٨ نشر المكتب الإسلامي) .

(٣) لسان العرب، وتاج العروس مع القاموس المحيط، ومختار الصحاح مادة: (شرب) .

الشَّعِيرِ، أَوِ الْحَلَوِيَّاتِ كَالْعَسَل. وَسَوَاءٌ كَانَ مَطْبُوخًا أَوْ نِيئًا (١) .

وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِاسْمٍ قَدِيمٍ كَالْخَمْرِ، أَوْ مُسْتَحْدَثٍ (كَالْعَرَقِ وَالشَّمْبَانِيَا. . . إِلَخْ)، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. (٢)

أَنْوَاعُ الأَْشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَحَقِيقَةُ كُل نَوْعٍ:

٢ - تُطْلَقُ الأَْشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْخَمْرِ، وَالأَْشْرِبَةِ الأُْخْرَى.

النَّوْعُ الأَْوَّل: الْخَمْرُ

التَّعْرِيفُ:

٣ - الْخَمْرُ لُغَةً: مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْل. وَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ إِنَّمَا

_________

(١) تبيين الحقائق ٦ / ٤٤ ط دار المعرفة، وتكملة فتح القدير مع الهداية ٩ / ٢٢ ط دار إحياء التراث، وابن عابدين ٥ / ٢٨٨ ط دار إحياء التراث، والمدونة ٦ / ٢٦١ ط دار صادر، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير ٤ / ١١٣ ط دار الفكر، والزرقاني ٨ / ١١٢ ط دار الفكر، والمحلى مع حاشيتيه القليوبي وعميرة ٤ / ٢٠٢ ط عيسى الحلبي، ومغني المحتاج ٨ / ٩ - ١٠ نشر المكتبة الإسلامية، وحاشية الجمل على شرح المنهج ٥ / ١٥٧ - ١٥٨ ط إحياء التراث، والمغني ٨ / ٣٠٣ ط الرياض، وكشاف القناع ٦ / ١١٦ نشر مكتبة النصر.

(٢) حديث: " ليشربن أناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير أسمها ". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا، وفي إسناده مقال، وذكر له ابن حجر شواهد جيدة في الفتح (عون المعبود ٣ / ٣٧٩ ط الهند، وسنن ابن ماجه ٢ / ١٣٣٣ ط عيسى الحلبي، ومسند أحمد بن حنيل ٥ / ٣٤٢ ط الميمنية، وفتح الباري ١٠ / ٥١، ٥٢ ط السلفية) .

هِيَ مَا كَانَ مِنَ الْعِنَبِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ (١) . قَال الْفَيْرُوزْآبَادِي: الْخَمْرُ مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ، وَالْعُمُومُ أَصَحُّ، لأَِنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ، وَمَا كَانَ شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ (٢) .

وَقَال الزُّبَيْدِيُّ يَشْرَحُ قَوْل صَاحِبِ الْقَامُوسِ: (أَوْ عَامٌّ) أَيْ: مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ كُل شَيْءٍ، لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى السُّكْرِ وَغَيْبُوبَةِ الْعَقْل، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْجَمَاهِيرُ. وَسُمِّيَ الْخَمْرُ خَمْرًا، لأَِنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْل وَتَسْتُرُهُ، أَوْ لأَِنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ وَاخْتَمَرَتْ (٣) .

فَعَلَى الْقَوْل الأَْوَّل يَكُونُ إِطْلاَقُ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْل (٤) .

٤ - وَاصْطِلاَحًا: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ وَإِطْلاَقِ الشَّرْعِ. فَذَهَبَ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَسَائِرُ الْحِجَازِيِّينَ، وَأَهْل الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ تُطْلَقُ عَلَى مَا يُسْكِرُ قَلِيلُهُ أَوْ كَثِيرُهُ، سَوَاءٌ اتُّخِذَ مِنْ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهَا. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ. (٥)

وَبِقَوْل عُمَرَ ﵁: أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّهُ نَزَل تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنْ الْعِنَبِ،

_________

(١) لسان العرب مادة: (خمر)

(٢) القاموس المحيط مادة: (خمر) .

(٣) تاج العروس مادة: (خمر) .

(٤) روضة الناظر ص ٨٨ ط السلفية.

(٥) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (٣ / ١٥٨٧ ط الحلبي) وأبو داود (٤ / ٨٥ ط عزت عبيد) .

وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَل، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْل (١) .

وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا نَزَل بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَهِمَ الصَّحَابَةُ - وَهُمْ أَهْل اللِّسَانِ - أَنَّ كُل شَيْءٍ يُسَمَّى خَمْرًا يَدْخُل فِي النَّهْيِ، فَأَرَاقُوا الْمُتَّخَذَ مِنْ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِالْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ، عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْعُمُومُ. ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَمْرِ الْمُتَّخَذُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً. فَإِنَّ تَسْمِيَةَ كُل مُسْكِرٍ خَمْرًا مِنَ الشَّرْعِ كَانَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ (٢) .

وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ، سَوَاءٌ أَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَمْ لاَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشُّرُنْبُلاَلِيِّ (٣)

_________

(١) الأثر عن عمر ﵁: " أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة. . . . . " أخرجه البخاري (١٠ / ٣٥ - الفتح ط السلفية) ومسلم (٤ / ٢٣٢٢ ط الحلبي) .

(٢) المغني ٩ / ١٥٩، وكشاف القناع ٦ / ١١٦، والمدونة ٦ / ٢٦١، والروضة ١٠ / ١٦٨ ط المكتب الإسلامي، والخطابي على سنن أبي داود ٤ / ٢٦٢ - ٢٦٣ ط العلمية حلب، وحاشية البناني على شرح الزرقاني ٤ / ١١٢، وفتح الباري ١٠ / ٤٨ السلفية، وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد مع العدة ٤ / ٤٨٣ - ٤٨٤، وتفسير الرازي ٦ / ٤٢ وما بعدها ط المطبعة البهية، والمنتقى للباجي ٣ / ١٤٧، وأحكام القرآن للقرطبي ٣ / ٥٢ و٦ / ٢٨٦، وفتح القدير للشوكاني ٢ / ٧٤.

(٣) ابن عابدين ٥ / ٢٨٨، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ٤ / ٣٥٣، وتحفة المحتاج ٧ / ٦٣٦ دار صادر، والروضة ١٠ / ١٦٨، ونهاية المحتاج ٨ / ٩، وتفسير الآلوسي ٢ / ١١٢، والطبري ٢ / ٣٥٧، والكرماني شرح البخاري ٢٠ / ١٤٠، وعمدة القاري ٢١ / ١٦٦ وما بعدها.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ (١) . وَقَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَحْدَهُ بِأَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ (٢) بَعْدَ اشْتِدَادِهِ (٣) .

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ كَوْنَهُ نِيئًا.

يَتَبَيَّنُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ إِطْلاَقَ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الأَْوَّل مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، فَكُل مُسْكِرٍ عِنْدَهُمْ خَمْرٌ.

وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، فَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى (٤) وَاشْتَدَّ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ. وَإِطْلاَقُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْشْرِبَةِ مَجَازٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ.

النَّوْعُ الثَّانِي: الأَْشْرِبَةُ الْمُسْكِرَةُ الأُْخْرَى

٥ - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنْ يَكُونَ كُل مُسْكِرٍ خَمْرًا هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ أَوْ شَرْعِيَّةٌ كَمَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ لاَ يُخَالِفُونَ الْجُمْهُورَ فِي أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي الإِْطْلاَقِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يُغَيِّرَ الأَْحْكَامَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَ شُرْبِ قَلِيلِهِ، وَالنَّجَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَمْرِ، مَا عَدَا مَسْأَلَةَ تَكْفِيرِ مُسْتَحِل غَيْرِ الْخَمْرِ، فَلاَ يَكْفُرُ مُنْكِرُ

_________

(١) اشتد: قوي تأثيره بحيث يصير مسكرا (ابن عابدين ٥ / ٢٨٨) .

(٢) قذف بالزبد: رمى بالرغوة (المرجع السابق) .

(٣) ابن عابدين ٥ / ٢٨٨، وفتح القدير مع الهداية ٩ / ٢٦، وأسنى المطالب ٤ / ١٥٨ ط الميمنية بمصر، ومغني المحتاج ٤ / ١٨٦.

(٤) الغليان: الفوران من غير نار.

حُكْمِهِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي كُل ذَلِكَ مُفَصَّلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَيُحَدُّ بِهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً، أَمَّا الأَْنْبِذَةُ عِنْدَهُمْ فَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهَا إِلاَّ إِذَا سَكِرَ مِنْهَا (١) .

وَالأَْشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ

النَّوْعُ الأَْوَّل: الأَْشْرِبَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْعِنَبِ وَهِيَ

أ - الْخَمْرُ وَهِيَ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيءِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَبِقَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ قَذْفِ الزَّبَدِ (٢) قَال الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ (مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ) . (٣)

وَلِعَصِيرِ الْعِنَبِ أَنْوَاعٌ بِحَسَبِ ذَهَابِ جُزْءٍ مِنْهُ بِالطَّبْخِ، كَالْبَاذِقِ، وَالطِّلاَءِ، وَالْمُثَلَّثِ، وَالْمُنَصَّفِ وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ (٤) . وَفِي حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الزَّبِيبِ، وَهُوَ صِنْفَانِ: (١) نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الزَّبِيبُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ حَتَّى تَخْرُجَ حَلاَوَتُهُ إِلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَشْتَدُّ وَيَغْلِي وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ لَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ.

_________

(١) الهداية مع فتح القدير ٩ / ٣١.

(٢) رد المحتار ٥ / ٢٨٨.

(٣) المغني ٨ / ٣١٧، والفواكه الدواني ٢ / ٢٨٩، والدسوقي مع الشرح الكبير ٤ / ٣٥٢، ومغني المحتاج ٤ / ١٨٦، والمصباح المنير، وأساس البلاغة.

(٤) الفتاوى الهندية ٥ / ٤٠٩، وابن عابدين مع الدر المختار ٥ / ٢٩٠، وبدائع الصنائع ٦ / ٢٩٤٥ ط الإمام.

(٢) نَبِيذُ الزَّبِيبِ وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ وَغَلَى وَاشْتَدَّ (١) .

النَّوْعُ الثَّانِي:

مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الرُّطَبِ (وَهُوَ السُّكَّرُ) وَالْبُسْرُ (وَهُوَ الْفَضِيخُ) . وَفِي حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ الْخَلِيطَانِ. وَهُوَ شَرَابٌ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ وَمَاءِ التَّمْرِ أَوِ الْبُسْرِ أَوِ الرُّطَبِ الْمُخْتَلِطَيْنِ إِذَا طُبِخَا أَدْنَى طَبْخٍ وَإِنِ اشْتَدَّ، وَلاَ عِبْرَةَ بِذَهَابِ الثُّلُثَيْنِ (٢)

النَّوْعُ الثَّالِثُ:

نَبِيذُ مَا عَدَا الْعِنَبَ وَالتَّمْرَ كَالْعَسَل أَوْ التِّينِ أَوِ الْبُرِّ وَنَحْوِهَا (٣) . هَذِهِ هِيَ الأَْشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْخَمْرُ فَبِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَأَمَّا نَبِيذُ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ فَيَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ مِنْهَا خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا نَبِيذُ الْعَسَل وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمُبَاحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، بِشَرْطِ أَلاَّ يُشْرَبَ لِلَهْوٍ أَوْ طَرِبٍ، وَخَالَفَهُمَا مُحَمَّدٌ، وَرَأْيُهُ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (٤)، كَمَا سَيَتَّضِحُ فِيمَا يَأْتِي.

أَحْكَامُ الْخَمْرِ:

٦ - الْمُرَادُ بِالْخَمْرِ هُنَا جَمِيعُ الْمُسْكِرَاتِ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَأَحْكَامُهَا مَا يَأْتِي:

_________

(١) المصباح المنير، والفتاوى الهندية ٥ / ٤٠٩، وفتح القدير مع الهداية ٩ / ٣٠ - ٣١.

(٢) المغني ٨ / ٣١٨ - ٣١٩، وتبيين الحقائق ٦ / ٤٥، والبدائع ٦ / ٢٩٤٥

(٣) البدائع ٦ / ٢٩٤٦، والفتاوى الهندية ٥ / ٤١٣، وابن عابدين ٥ / ٢٩٢ - ٢٩٣، والهداية مع فتح القدير ٩ / ٣٢.

(٤) نفس المراجع.