الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣
دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي، إِذِ الْقَاضِي يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهَا عِنْدَ غَيْبَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَاضِيًا، دَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ، لأَِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ الدَّفْعَ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ وَكِيلِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَدَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ الْعَدْل أَوِ الأَْمِينِ، ضَمِنَ، لأَِنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِدُونِ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَضَمِنَهَا، كَمَا لَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ بِلاَ عُذْرٍ. وَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ ضَمِنَ، لأَِنَّ غَيْرَ الْحَاكِمِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ. (١) وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوزَ لَهُ إِيدَاعُهَا، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَحْفَظَ لَهَا وَأَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهَا. (٢)
أَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِالْغَيْرِ فِي حَمْل الْوَدِيعَةِ وَوَضْعِهَا وَحِفْظِهَا فِي الْحِرْزِ أَوْ سَقْيِهَا أَوْ عَلْفِهَا فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِلْوَدِيعِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ. (٣) قَال
_________
(١) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٨، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٦٠، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٤، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٣.
(٢) الْمُغْنِي ٩ / ٢٦١.
(٣) الْقَلْيُوبِيّ وَعَمِيرَة ٣ / ١٨٢، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٧، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٦، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ ٣ / ٨٢، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٢.
الشَّافِعِيَّةُ إِذَا لَمْ يُزِل يَدَهُ عَنْهَا، لأَِنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ بِالاِسْتِعَانَةِ، وَلأَِنَّهُ مَا أَخْرَجَهَا عَنْ يَدِهِ وَلاَ فَوَّضَ حِفْظَهَا إِلَى غَيْرِهِ. (١)
ج - خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِهَا ٤٢ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِهَا، بِحَيْثُ تَتَمَيَّزُ عَنْهُ، أَوْ يَسْهُل تَفْرِيقُهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، وَذَلِكَ لإِمْكَانِ فَصْلِهَا عَمَّا خُلِطَتْ بِهِ وَرَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى مَالِكِهَا عِنْدَ طَلَبِهِ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا فِي صُنْدُوقٍ فِيهِ أَكْيَاسٌ لَهُ (٢) . قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا نَقَصَتِ الْوَدِيعَةُ بِالْخَلْطِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ أَرْشَ نُقْصَانِهَا. (٣)
أَمَّا إِذَا خُلِطَتْ بِمَا لاَ يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ عَنْهَا أَوْ بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَفْرِيقُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَنِ الآْخَرِ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِإِذْنِ مَالِكِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
_________
(١) الْمُهَذَّب ١ / ٣٦٨.
(٢) كَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٨، وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢٥٣، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص ٣٧٩، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٣، وَالْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ ص ٤٠٣، وَالأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص ٣٢٨، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٧، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١.
(٣) الأُْمّ ٤ / ٦٣، وَانْظُرْ أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٠، والقليوبي ٣ / ١٨٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٣.
الْحَالَةُ الأُْولَى: خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا:
٤٣ - إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ فَعَل مَا فَوَّضَهُ الْمَالِكُ بِفِعْلِهِ، فَكَانَ نَائِبًا عَنْهُ فِيهِ (١) .
وَاخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَدِيعَ يَكُونُ شَرِيكًا لِلْمُودِعِ، وَفِي بَعْضِهَا ذَكَرَ أَنَّ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل لأَِبِي حَنِيفَةَ: وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمَالِكِ عَنِ الْوَدِيعَةِ بِكُل حَالٍ مَائِعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَائِعٍ، وَيَصِيرَ الْمَخْلُوطُ مِلْكَ الْخَالِطِ وَيَضْمَنَ الْخَالِطُ لِلْمُودِعِ حَقَّهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
الثَّانِي لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْوَدِيعَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ اخْتِيَارِيَّةً، فَإِذَا هَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ.
وَالثَّالِثُ لأَِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجْعَل الأَْقَل تَابِعًا لِلأَْكْثَرِ، اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ يَكُونُ الْمَخْلُوطُ مِلْكَهُ، وَيَضْمَنُ
_________
(١) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ ٩ / ٢٥٩.
لِلآْخَرِ حَقَّهُ وَذَلِكَ فِي الْمَائِعِ. (١)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: خَلْطُ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا فِيمَا لاَ يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ:
لِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
(أ) خَلْطُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ مَال غَيْرِهِ:
٤٤ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ بِغَيْرِ مَالِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ الْمَالَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا أَوْ دُونِهَا أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا، مِنْ جِنْسِهَا أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ خَلْطَ مُجَاوَرَةٍ كَقَمْحٍ بِقَمْحٍ أَوْ بِشَعِيرٍ أَوْ خَلْطَ مُمَازَجَةٍ كَالْخَل بِالزَّيْتِ، لأَِنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهَا حُكْمًا بِالْخَلْطِ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهَا لِمَالِكِهَا بَعْدَهُ (٢) .
_________
(١) قُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٨، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٦، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨، وَدُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٦٢، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٦٩، وَانْظُرِ الْمَادَّة (٨٢٦) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ وَالْمَادَّةِ (٧٩٨) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة.
(٢) بَدَائِع الصَّنَائِع ٦ / ٢١٣، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٧، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٨، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٧، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٦، وَمَجْمَع الأَْنْهُر وَالدَّرّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٤١، وَالأَْشْبَاه وَالنَّظَائِر لاِبْنِ نَجِيم ص ٣٢٨، النَّتْف للسغدي ٢ / ٥٧٩، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٥٦، وَالإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٥٣، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٦، وَالأُْمّ ٤ / ٦٣، وَالْمُهَذَّب ١ / ٣٦٨، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٣، والقليوبي ٣ / ١٨٦، وَأَسْنَى الْمَطَالِب وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ ٣ / ٨٠، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٤٠، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٨.
قَال السَّرَخْسِيُّ: الْخَلْطُ أَنْوَاعٌ ثَلاَثَةٌ:
خَلْطٌ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ، كَخَلْطِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ. فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُول إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ.
وَخَلْطٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ، كَخَلْطِ الدَّرَاهِمِ السُّودِ بِالْبِيضِ، وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ. فَهَذَا لاَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، لِتَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنَ الْوُصُول إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ، فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ، وَلَيْسَتْ بِخَلْطٍ. وَخَلْطٌ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ، كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ. فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُول إِلَى عَيْنِ مِلْكِهِ إِلاَّ بِحَرَجٍ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ. (١)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مُمَاثِلٍ لَهَا جِنْسًا أَوْ صِفَةً مِنْ مَالِهِ، كَخَلْطِ الْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ وَنَحْوَهُ، فَيَلْزَمُهُ
_________
(١) الْمَبْسُوط ١١ / ١١٠، وَانْظُرِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٨، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٧.
الضَّمَانُ، لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ، حَيْثُ إِنَّهُ فَوَّتَ عَيْنَهَا بِالْخَلْطِ، فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهَا، لأَِنَّهَا لاَ تَتَمَيَّزُ، وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا خُلِطَ بِهَا، فَلاَ يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ.
أَمَّا إِذَا خَلَطَهَا بِجِنْسِهَا الْمُمَاثِل لَهَا جَوْدَةً وَرَدَاءَةً، كَحِنْطَةٍ بِمِثْلِهَا، أَوْ ذَهَبٍ بِمِثْلِهِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الإِْحْرَازِ وَالرِّفْقِ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُودِعَ عَلَى مِثْل ذَلِكَ قَدْ دَخَل، إِذْ قَدْ يَشُقُّ عَلَى الْوَدِيعِ أَنْ يَجْعَل كُل مَا أَوْدَعَهُ عَلَى حِدَةٍ. وَلأَِنَّهُ لَوْ تَعَدَّى عَلَى الْوَدِيعَةِ فَأَكَلَهَا، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا، ثُمَّ ضَاعَتْ بَعْدَ رَدِّهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهَا كَرَدِّ مِثْلِهَا، فَلاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إِذَا هَلَكَتْ. (١)
(ب) خَلْطُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالٍ لِصَاحِبِهَا:
٤٥ - نَقَل صَاحِبُ الْمُبْدِعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَنِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ إِحْدَى وَدِيعَتَيْ زَيْدٍ بِالأُْخْرَى بِلاَ إِذْنِهِ، وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ. (٢)
_________
(١) التَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٣، وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢٥٢، والزرقاني عَلَى خَلِيل وَحَاشِيَة الْبُنَانِيّ عَلَيْهِ ٦ / ١١٤، وَالْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٤٥، وَمَا بَعْدَهَا، وَالْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ ص ٤٠٣، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص ٣٧٩.
(٢) الْمُبْدِع ٥ / ٢٤٠.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا خَلَطَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِمَالٍ آخَرَ لِصَاحِبِهَا، فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، لأَِنَّ الْجَمِيعَ لَهُ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَفْرِيقِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْصَحُّ، أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَرْضَ الْمُودِعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخْتَلِطًا بِالآْخَرِ (١) .
(ج ـ) خَلْطُ غَيْرِ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ:
٤٦ - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا خَلَطَ غَيْرُ الْوَدِيعِ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ أَوْ بِمَال غَيْرِهِ، فَعَلَى الْخَالِطِ ضَمَانُهَا، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْل الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، لاِنْعِدَامِ الْخَلْطِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ ضَمِنَهَا الْخَالِطُ، وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ فِي الْعَيْنِ بِمِقْدَارِ حِصَّتِهِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ. (٢)
_________
(١) أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٠، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٣، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٦، وَالْمُهَذَّب ١ / ٣٦٨.
(٢) الْمَبْسُوط ١١ / ١١٠، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٦، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٩، قُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٩، شَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٦٦، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٩، وَانْظُرِ الْمَادَّة (٨٢٥) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ وَالْمَادَّةِ (٧٧٨) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة.
(د) اخْتِلاَطُ الْوَدِيعَةِ بِمَال الْوَدِيعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ:
٤٧ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ إِذَا اخْتَلَطَتِ الْوَدِيعَةُ بِمَالِهِ بِلاَ صُنْعِهِ، لاِنْعِدَامِ الْفِعْل الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلأَِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ حَقِيقَةً بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ تَفْرِيطٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَاخْتِلاَطُهَا بِغَيْرِهَا أَوْلَى.
بَل إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ شَرِيكًا لِمَالِكِ الْوَدِيعَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ جَبْرِيَّةً، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ، لِوُجُودِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَهُوَ اخْتِلاَطُ الْمِلْكَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْوَدِيعَةُ بِغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنَ الْوَدِيعِ فَلاَ ضَمَانَ فَإِنْ ضَاعَ الْبَعْضُ جَعَل مِنْ مَال الْوَدِيعِ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ، قَال الْمَجْدُ: وَلاَ يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ مِنْهُمَا (١) .
_________
(١) كَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٩، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٩، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٦، قُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٩، وَالْبَدَائِع ٦ / ٢١٣، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١، وَالْمَبْسُوط ١١ / ١١٠، وَدُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٦٢.
(هـ) خَلْطُ الْوَدِيعِ وَدِيعَتَيْنِ لِشَخْصَيْنِ:
٤٨ - قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلاَنِ، كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَخَلَطَ الْوَدِيعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، فَلاَ سَبِيل لَهُمَا عَلَى أَخْذِ الدَّرَاهِمِ، وَيَضْمَنُ الْوَدِيعُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ لَهُ. وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةِ: أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ عَجَزَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَخْلُوطِ، فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إِتْلاَفًا لِلْوَدِيعَةِ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَضْمَنُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُمَا بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمِنَا الْوَدِيعَ أَلْفَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ سَائِرُ الْمُكَيَّلاَتِ والْمَوْزُونَاتِ إِذَا خُلِطَ الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ، كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، لَكِنَّ عَجْزَ الْمَالِكِ عَنِ الْوُصُول إِلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا لاِعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمِنَا لاِعْتِبَارِ جِهَةِ الْعَجْزِ.
وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً، وَآخَرُ شَعِيرًا، فَخَلَطَهُمَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْل حَقِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الْخَلْطَ إِتْلاَفٌ.
وَعِنْدَهُمَا: لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ وَيَبِيعَاهَا وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ، وَعَلَى قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ، لأَِنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ، وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ، بِخِلاَفِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ، لأَِنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ. (١)
(د) - السَّفَرُ بِالْوَدِيعَةِ:
٤٩ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ لِلْوَدِيعِ السَّفَرَ بِالْوَدِيعَةِ إِذَا أَذِنَ صَاحِبُهَا بِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الإِْيدَاعَ فِي السَّفَرِ إِذْنًا ضِمْنِيًّا لِلْوَدِيعِ فِي أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لأَِنَّ عِلْمَ الْمُودِعِ بِحَالِهِ عِنْدَ إِيدَاعِهِ يُشْعِرُ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ دَلاَلَةً (٢) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ بِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ
_________
(١) بَدَائِع الصَّنَائِع ٦ / ٢١٣.
(٢) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١١، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكِفَايَة الأَْخْيَار ٢ / ٨، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٩، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٧.