الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣
وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " (١)، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالأَْصْل، وَالأَْصْل أَنَّهُ لَمْ يُودِعْهُ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ.
فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِالإِْيدَاعِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، طُولِبَ بِهَا (٢) .
٦٠ - وَفِي ضَمَانِ الْوَدِيعِ بَعْدَ الْجُحُودِ، إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ أَوْ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، خِلاَفٌ لِلْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٌ هَذَا بَيَانُهُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الإِْيدَاعِ بَعْدَمَا جَحَدَ الْوَدِيعُ، وَأَقَامَ الْوَدِيعُ بَيِّنَةً عَلَى الْهَلاَكِ، فَيَنْظُرُ:
فَإِنْ جَحَدَ الْوَدِيعُ أَصْل الإِْيدَاعِ، بِأَنْ قَال لِلْمُودِعِ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا. فَالْوَدِيعُ ضَامِنٌ، وَبَيِّنَتُهُ عَلَى الْهَلاَكِ بَعْدَ الْجُحُودِ مَرْدُودَةٌ إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ، لأَِنَّهُ صَارَ بِالْجُحُودِ ضَامِنًا، وَهَلاَكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ. وَكَذَا إِذَا شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْل جُحُودِهِ، لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ لاَ تُقْبَل إِلاَّ بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي كَلاَمِهِ، فَجُحُودُهُ أَصْل الإِْيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ
_________
(١) حَدِيث: " الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي. . . . " أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيّ (١٠ / ٢٥٢ - ط دَائِرَة الْمَعَارِفِ الْعُثْمَانِيَّة) وَإِسْنَاده صَحِيح.
(٢) الْمُهَذَّب ١ / ٣٦٩، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٣.
دَعْوَى الْهَلاَكِ قَبْلَهُ، فَلِهَذَا لاَ تُقَبَل بَيِّنَتُهُ إِلاَّ أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلأَِنَّ الْمُنَاقِضَ إِذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ، كَانَ مَقْبُول الْقَوْل (١) .
وَإِنْ جَحَدَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ، بِأَنْ قَال: لَيْسَ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ. ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أَوْ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِبَيِّنَتِهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ، فَدَخَلَتِ الْعَيْنُ فِي ضَمَانِهِ، وَالْهَلاَكُ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ، لاَ أَنَّهُ يُسْقِطُهُ.
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْل الْجُحُودِ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْهَلاَكَ قَبْل الْجُحُودِ، لِمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ الْعَقْدِ قَبْل الْجُحُودِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، فَلاَ يَضْمَنُ (٢) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَنْكَرَ الْوَدِيعُ أَصْل الإِْيدَاعِ عِنْدَ طَلَبِ الْوَدِيعَةِ، فَشَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِهِ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَدِّهَا، فَفِي قَبُول بَيِّنَتِهِ بِالرَّدِّ خِلاَفٌ مَشْهُورٌ.
_________
(١) الْمَبْسُوط ١١ / ١١٧، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٦.
(٢) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٦، وَبَدَائِع الصَّنَائِع ٦ / ٢١٢، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١، وَمِنْحَة الْخَالِقِ عَلَى الْبَحْرِ الرَّائِقِ ٧ / ٢٧٧.
فَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ: هُوَ ضَامِنٌ بِالْجُحُودِ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ بِالرَّدِّ، لأَِنَّهُ أَكْذَبَهَا بِدَعْوَاهُ عَدَمَ الاِسْتِيدَاعِ.
وَقِيل: يُقْبَل قَوْلُهُ. قَال اللَّخْمِيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ. لأَِنَّهُ يَقُول أَرْدْتُ بِالْجُحُودِ أَلاَّ أَتَكَلَّفَ بَيِّنَةً.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْكِرْ أَصْل الإِْيدَاعِ، بَل قَال: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ. فَالْبَيِّنَةُ بِالْبَرَاءَةِ تَنْفَعُهُ (١) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْوَدِيعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَلَفَهَا قَبْل الْجُحُودِ أَوْ بَعْدَهُ، نُظِرَ فِي صِيغَةِ جُحُودِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْل الإِْيدَاعِ لَمْ تَقْبَل دَعْوَاهُ الرَّدَّ لِتَنَاقُضِ كَلاَمِهِ وَظُهُورِ خِيَانَتِهِ، وَأَمَّا فِي دَعْوَى التَّلَفِ فَيُصَدَّقُ لَكِنَّهُ كَالْغَاضِبِ فَيَضْمَنُ، وَهَل يَتَّمَكَنُّ مِنْ تَحْلِيفِ الْمَالِكِ وَهَل تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ؛ لاِحْتِمَالٍ أَنَّهُ نَسِيَ فَصَارَ كَمَنِ ادَّعَى وَقَال لاَ بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ فَتُسْمَعُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالرَّدِّ أَوِ الْهَلاَكِ قَبْل الْجُحُودِ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ قَامَتْ بِالْهَلاَكِ بَعْدَ الْجُحُودِ ضَمِنَ لِخِيَانَتِهِ.
_________
(١) الزُّرْقَانِيّ عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٩، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٨.
وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ جُحُودِهِ: لاَ يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، أَوْ مَا لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَوْ شَيْءٌ، صَدَقَ فِي دَعْوَى الرَّدِّ وَالتَّلَفِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تُنَاقِضُ كَلاَمَهُ الأَْوَّل.
فَإِنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ بَاقِيًا يَوْمَ الْجُحُودِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَإِنِ ادَّعَى الْهَلاَكَ فَكَالْغَاصِبِ إِذَا ادَّعَاهُ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ (١) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَنْكَرَ وَدِيعٌ أَصْل الإِْيدَاعِ، فَقَال: لَمْ تُودِعْنِي. ثُمَّ أَقَرَّ بِالإِْيدَاعِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، فَادَّعَى رَدَّا أَوْ تَلَفًا سَابِقَيْنِ لِجُحُودِهِ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِجُحُودِهِ، مُعْتَرِفًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ الْمُنَافِي لِلأَْمَانَةِ. وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، فَلاَ تُسْمَعُ، لِتَكْذِيبِهِ لَهَا بِجُحُودِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ بَعْدَ جُحُودِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِالْوَدِيعَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَجَحَدَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا يَوْمَ السَّبْتَ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّهَا أَوْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ يَوْمَ الأَْرْبِعَاءِ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَتَهُ، قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِهِمَا، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهَا. فَإِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَتُهُ بِرَدٍّ أَوْ تَلَفٍ بَعْدَ جُحُودِ الإِْيدَاعِ، وَلَمْ تُعَيَّنْ هَل ذَلِكَ التَّلَفُ أَوِ الرَّدُّ قَبْل جُحُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، لأَِنَّ وُجُوبَهُ
_________
(١) رَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٣.
مُتَحَقِّقٌ، لاَ يَنْتَفِي بِأَمْرٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِوَدِيعَةٍ لِمُدَّعِيهَا: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ، أَوْ: لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا. فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِالإِْيدَاعِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْوَدِيعُ، ثُمَّ ادَّعَى تَلَفًا أَوْ رَدًّا، كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِجَوَابِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوْدَعَهُ، ثُمَّ تَلِفَتْ عِنْدَهُ بِلاَ تَفْرِيطٍ، أَوْ رَدَّهَا، فَلاَ يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ. وَلاَ تُقْبَل مِنْهُ دَعْوَى وُقُوعِ الرَّدِّ أَوِ التَّلَفِ بَعْدَ جُحُودِهِ، لاِسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ بِالْجُحُودِ، فَيُشْبِهُ الْغَاصِبَ. قَال الْبُهُوتِيُّ: قُلْتُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةٌ (١) .
(ك) - تَضْيِيعُ الْوَدِيعَةِ
٦١ - الْمُرَادُ بِتَضْيِيعِ الْوَدِيعَةِ تَعْرِيضُهَا لِلذَّهَابِ وَالتَّوَى عَلَى صَاحِبِهَا، كَأَنْ يُلْقِيَهَا الْوَدِيعُ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ يَجْعَلَهَا فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا، أَوْ يُؤَخِّرَ إِحْرَازَهَا مَعَ التَّمَكُّنِ، فَتَهْلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا بِالتَّحَرُّزِ عَنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَقَدْ أَتَى بِنَقِيضِ مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ، فَكَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى تَضْمِينِهِ (٢) .
_________
(١) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٦، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ٢٠١، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٤٤.
(٢) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٢ وَمَا بَعْدَهَا، فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ ص ٢١٨، ٢١٩، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص ٣٧٩، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤١، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٢، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٧.
وَأَنْوَاعُ التَّضْيِيعِ كَثِيرَةٌ لاَ تَنْحَصِرُ، وَالْمَرْجِعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا لِلْوَدِيعَةِ وَمَا لاَ يُعَدُّ إِلَى الْعُرْفِ، وَإِنَّهُ لَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ وَعَوَائِدِ النَّاسِ (١) .
وَقَدْ عَدَّ الشَّافِعِيَّةُ مِنْهُ الصُّوَرَ التَّالِيَةَ:
أ) مَا لَوْ وَقَعَتْ دَابَّةٌ فِي مَهْلَكَةٍ، وَهِيَ مَعَ وَدِيعٍ، فَتَرَكَ تَخْلِيصَهَا الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ كَبِيرُ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، أَوْ ذَبَحَهَا بَعْدَ تَعَذُّرِ تَخْلِيصِهَا، فَمَاتَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا (٢) .
ب) أَنْ يَنَامَ الْوَدِيعُ عَنْهَا، وَهِيَ مَعَهُ فِي غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ مَعَهُ رُفْقَةٌ مُسْتَيْقِظُونَ يَحْفَظُونَهَا، فَتَضِيعَ (٣) .
ج) أَنْ يَدُل الْوَدِيعُ عَلَيْهَا، أَوْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ يُصَادِرُ الْمَالِكَ وَيَأْخُذُ أَمْوَالَهُ، وَيُعَيِّنَ لَهُ مَوْضِعَهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ (٤) .
_________
(١) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٢، ٣٤٣، ٣٤٤، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٢، وَالْعُقُود الدُّرِّيَّة ٢ / ٧٥.
(٢) تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١١٩.
(٣) تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١١٩، والقليوبي ٣ / ١٨٥.
(٤) رَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٢، والقليوبي وَعَمِيرَة ٣ / ١٨٥، وَكِفَايَة الأَْخْيَار ٢ / ١٠.
وَعَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنَ التَّضْيِيعِ: مَا لَوْ سَلَّمَهَا الْوَدِيعُ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا فَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، لأَِنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَى رَبِّهَا (١) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ التَّضْيِيعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مَا لَوْ دَل الْوَدِيعُ لِصًّا عَلَى مَكَانِ الْوَدِيعَةِ، فَسَرَقَهَا، وَذَلِكَ لإِتْيَانِهِ بِنَقِيضِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْحِفْظِ (٢) .
غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ضَمَانَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْوَدِيعِ وَاللِّصِّ، أَمَّا الْوَدِيعُ، فَلِمُنَافَاةِ دَلاَلَتِهِ لِلْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهُمَا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا اللِّصُّ، فَلأَِنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ لَهَا. وَعَلَى اللِّصِّ قَرَارُ الضَّمَانِ لِمُبَاشَرَتِهِ (٣) .
وَهُنَاكَ صُورَتَانِ لِتَضْيِيعِ الْوَدِيعَةِ، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِهَا:
_________
(١) كَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ٢٠١، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٨.
(٢) الْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٥، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٦، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٦، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٢، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٠، وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٣، الزُّرْقَانِيّ عَلَى خَلِيلٍ مَعَ الْبُنَانِيّ ٦ / ١٢٠، وَالْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ ص ٣٧٩، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٧.
(٣) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ لِلْبَهُوتِي ٢ / ٤٥٢.
الصُّورَةُ الأُْولَى:
إِذَا أُكْرِهَ الْوَدِيعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَدِيعَةِ لِغَاصِبٍ أَوْ ظَالِمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الأَْصَحِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ عُذْرٌ يُبِيحُ دَفْعَهَا لِمَنْ أَكْرَهَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ أُخِذَتْ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ (١) .
الثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ تَضْيِيعٌ مُوجِبٌ لِضَمَانِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْوَدِيعَ، لِمُبَاشَرَتِهِ التَّسْلِيمَ - وَلَوْ مُضْطَرًّا، إِذْ لاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى ضَمَانِ الْمُبَاشِرِ - لأَِنَّهُ فَوَّتَ الْوَدِيعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِخَوْفِ التَّلَفِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْوَدِيعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الظَّالِمُ الْمُكْرَهَ (٢) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ الْوَدِيعَةِ، كَمَا إِذَا قَعَدَ
_________
(١) رَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٥٠١، وَالدَّرّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٤٥، وقليوبي عَمِيرَة ٣ / ١٨٥، وَالْمُهَذَّب ١ / ٣٦٩، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ٢٠٠، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٨٠، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٨.
(٢) رَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٢، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢١، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٣، والقليوبي عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ ٣ / ١٨٥.
الْوَدِيعُ فِي طَرِيقٍ، وَهِيَ مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ فَنَسِيَهَا، أَوْ دَفَنَهَا بِحِرْزٍ ثُمَّ نَسِيَهُ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ كِيسُ دَرَاهِمَ وَدِيعَةً، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَامَ وَنَسِيَهُ، فَضَاعَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ حَبِيبٍ وَمُطَرِّفٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ، إِذَا ضَيَّعَهَا بِالنِّسْيَانِ. لأَِنَّ نِسْيَانَهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْوَدِيعَةِ. وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَابْنُ الْحَاجِّ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ (١) .
وَالثَّانِي: لِلْبَاجِيِّ وَالْعَبْدُوسِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (٢)، قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: اخْتُلِفَ فِي الْمَذْهَبِ فِي ضَمَانِهَا بِالنِّسْيَانِ، مِثْل أَنْ يَنْسَاهَا فِي مَوْضِعِ إِيدَاعِهَا، أَوْ يَنْسَى مَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَيَدَّعِيَهَا رَجُلاَنِ.
_________
(١) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٢، ٣٤٣، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤٥، وَالإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٥٩، والزرقاني عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٧، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٦، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٢، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١١٩، والقليوبي وَعَمِيرَة ٣ / ١٨٥، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات ٢ / ٤٦٦.
(٢) الزُّرْقَانِيّ عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٧، وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢٥٦، ٢٥٧، وَالْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات ٢ / ٤٦٦ وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٦.
فَقِيل: يَحْلِفَانِ، وَتُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَقِيل: إِنَّهُ يَضْمَنُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (١) .
(ل) - تَرْكُ تَعَهُّدِ الْوَدِيعَةِ:
٦٢ - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَوْدَعَ دَابَّةً، فَلَمْ يَأْمُرْهُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِهَا وَلاَ عَلْفِهَا وَلَمْ يَنْهَهُ، فَتَرَكَهَا دُونَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا. (٢)
قَال الْبُهُوتِيُّ: لأَِنَّ عَلْفَهَا وَسَقْيَهَا مِنْ كَمَال الْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالاِسْتِيدَاعِ، بَل هُوَ الْحِفْظُ بِعَيْنِهِ، إِذِ الْحَيَوَانُ لاَ يَبْقَى عَادَةً بِدُونِهِمَا، فَيَلْزَمَانِهِ (٣) . وَقَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ: وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُودِعَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ حِرَاسَتَهَا فِيمَا يَعْلِفُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ رَآهَا فِي بِئْرٍ لَلَزِمَهُ رَدُّهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي تَرْكِ عَلْفِهَا تَلَفُهَا، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ (٤) .
وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، لِمَا جَاءَ فِي قُرَّةِ عُيُونِ الأَْخْيَارِ نَقْلًا عَنِ الْحَاوِي
_________
(١) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٢.
(٢) الأُْمّ ٤ / ٦٠، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١١٣، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٨، وَالإِْشْرَاف لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب ٢ / ٤٢، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥١، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٩.
(٣) شَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥١.
(٤) الإِْشْرَاف عَلَى مَسَائِل الْخِلاَفِ ٢ / ٤٢.