الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣
يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَدِيعِ، أَوْ مَعَهُ كَرَمُ طَبْعٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ الْكَرَاهِيَةَ لَمْ يَجُزْ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَال ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِذَا تَسَلَّفَ مَا لاَ يَحْرُمُ تَسَلُّفُهُ، ثُمَّ رَدَّ مَكَانَهَا مِثْلَهَا، فَتَلِفَ الْمِثْل، بَرِئَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُكَال أَوْ يُوزَنُ فَتَسَلَّفَهُ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ مَكَانَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ الرَّدِّ. (١)
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنْ كَانَ الَّذِي رَدَّ مَكَانَهُ يَتَمَيَّزُ مِنْ دَنَانِيرِهِ وَدَرَاهِمِهِ، فَضَاعَتِ الدَّنَانِيرُ كُلُّهَا، ضَمِنَ مَا تُسُلِّفَ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَضَعَ بَدَلًا مِمَّا أَخَذَ لاَ يَتَمَيَّزُ وَلاَ يُعْرَفُ، فَتَلِفَتِ الدَّنَانِيرُ، ضَمِنَهَا كُلَّهَا. (٢)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنْ عَلِمَ الْوَدِيعُ عِلْمًا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْوَدِيعَةِ رَاضٍ بِذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رَجُلٍ اخْتَبَرْتَهُ خِبْرَةً تَامَّةً، وَعَلِمْتَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ، وَمَتَى وَقَعَ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، لَمْ يَجُزِ الاِقْتِرَاضُ. (٣)
_________
(١) التَّاج وَالإِْكْلِيل وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢٥٤، ٢٥٥، والزرقاني عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٥، وَالْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٤٧، ١٥٩، وَالْقَوَانِين الْفِقْهِيَّة ص ٣٧٩.
(٢) الأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ ٤ / ٦٣.
(٣) مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ ٣٠ / ٣٩٤.
(ز) - اسْتِعْمَال الْوَدِيعَةِ ٥٢ - اسْتِعْمَال الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ وَالاِنْتِفَاعُ بِهَا، كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْوَدِيعُ بِإِذْنِهِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حِل فِعْلِهِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ. (١) أَمَّا فِيمَا يَخُصُّ تَضْمِينَ الْوَدِيعِ بِالاِسْتِعْمَال الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَال الْوَدِيعَةِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ بِانْتِفَاءِ التَّعَدِّي بِالإِْذْنِ. وَأَنَّ الإِْذْنَ بِالاِسْتِعْمَال لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، لأَِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَفْسُدُ بِمَا يُنَافِيهِ، وَالاِسْتِعْمَال لاَ يُنَافِي الإِْيدَاعَ، وَلِذَا صَحَّ الأَْمْرُ بِالْحِفْظِ مَعَ الاِسْتِعْمَال ابْتِدَاءً.
وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ ٧٩٢ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: كَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يَسْتَعْمِل الْوَدِيعَةَ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَلَهُ أَيْضًا أَنْ يُؤَجِّرَهَا وَيُعِيرَهَا وَيَرْهَنَهَا (٢) .
_________
(١) الإِْقْنَاع لاِبْن الْمُنْذِر ٢ / ٤٠٥، وَالإِْشْرَاف عَلَى مَذَاهِبِ أَهْل الْعِلْمِ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٥٦، وَدُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٦٢.
(٢) الْبَدَائِع ٦ / ٢١١، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٣٣، وَالْمَبْسُوط ١١ / ١١٥، مَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١.
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الإِْذْنَ لِلْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَالِهَا يُفْسِدُ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَفْسُدُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنِ اسْتَعْمَلَهَا انْقَلَبَتْ عَارِيَةً فَاسِدَةً (١)، وَتَصِيرُ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً بِيَدِهِ، إِلْحَاقًا لِفَاسِدِ الْعَارِيَةِ بِصَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا بَقِيَتْ أَمَانَةً، إِلْحَاقًا لِفَاسِدِ الْوَدِيعَةِ بِصَحِيحِهَا فِي عَدَمِ الضَّمَانِ، حَيْثُ إِنَّ فَاسِدَ الْعُقُودِ كَصَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ (٢) .
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا أَذِنَ لِلْوَدِيعِ بِاسْتِعْمَال الْوَدِيعَةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا حَسَبَ الإِْذْنِ، صَارَتْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً، كَالرَّهْنِ إِذَا أَذِنَ رَبُّهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِاسْتِعْمَالِهِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فَهِيَ أَمَانَةٌ، لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَوَجَبَ تَغْلِيبُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الْحِفْظُ، فَتَبْقَى وَدِيعَةً. (٣)
أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَل الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا تَعَدٍّ
_________
(١) حَاشِيَة الشرواني عَلَى تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٥.
(٢) حَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ ٣ / ١٨١، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الشرواني عَلَيْهِ ٧ / ١٠٥، وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦.
(٣) كَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٦٧.
يَسْتَوْجِبُ ضَمَانَهُ. (١)
وَقَدْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَوْلَهُمْ بِتَضْمِينِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوَدِيعَةِ خِيَانَةً مُضَمَّنَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِيهِ، بِأَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُودَعِ لِدَفْعِ الْعُثِّ عَنْهُ، أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِعَلْفِهَا أَوْ سَقْيِهَا، وَكَانَتْ لاَ تَنْقَادُ إِلاَّ بِالرُّكُوبِ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُحْسِنًا فِيهِ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. (٢)
كَمَا قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِتَضْمِينِهِ بِمَا إِذَا كَانَ انْتِفَاعُهُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ يَعْطَبُهَا عَادَةً، وَعَطِبَتْ. فَأَمَّا إِذَا انْتَفَعَ بِهَا انْتِفَاعًا لاَ تَعْطَبُ بِهِ عَادَةً، وَتَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَسَاوَى الأَْمْرَانِ أَوْ جُهِل الْحَال، فَالأَْظْهَرُ الضَّمَانُ، وَلَوْ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ. (٣)
_________
(١) الْبَدَائِع ٦ / ٢١١، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٧، الْعُقُود الدُّرِّيَّة ٢ / ٧١، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٩، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٤، والقليوبي وَعَمِيرَة ٣ / ١٨٥، وَالإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٥٦، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ ٢ / ٢٥٤، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٤، وَالْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ ص ٤٠٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٥، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤.
(٢) أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٩، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٤، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٢، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٧.
(٣) شَرْح الزُّرْقَانِيّ عَلى خَلِيل ٦ / ١١٥.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهَا لِرَبِّهَا عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّعَدِّي، لاِرْتِفَاعِ الأَْمَانَةِ بِهِ.
وَقَدْ قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الأُْجْرَةِ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِيمَا إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَأْخُذُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلاَ. (١)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَبْطُل عَقْدُ الإِْيدَاعِ بِتَعَدِّي الْوَدِيعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا فَوْرًا إِلَى مَالِكِهَا، لأَِنَّ يَدَهُ صَارَتْ عَادِيَّةً كَالْغَاصِبِ (٢) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَزَال تَعَدِّيهِ عَلَى الْوَدِيعَةِ، بِأَنْ تَرَكَ لُبْسَ الثَّوْبِ أَوْ رُكُوبَ الدَّابَّةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَرَدَّهَا لِيَدِهِ سَلِيمَةً، وَعَاوَدَ حِفْظَهَا لِمَالِكِهَا، فَهَل يَزُول ضَمَانُهُ بِالْوِفَاقِ أَمْ لاَ؟ وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَزُول الضَّمَانُ عَنْهُ لِزَوَال مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ. (٣) قَال
_________
(١) تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٢، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٦، وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢٥٤، ٢٧٤، والزرقاني عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٥.
(٢) أَسْنَى الْمَطَالِب وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ ٣ / ٧٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الْعِبَادِيّ عَلَيْهِ ٧ / ١٠٤، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٥، ١٩٦.
(٣) مَجْمَع الأَْنْهُر وَالدَّرّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٤١، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨، وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٤، والزرقاني عَلَى خَلِيل ٦ / ١١٥.
الْعَيْنِيُّ: لأَِنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْوَاقِعِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ (١) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ فِي كُل الأَْوْقَاتِ، فَإِذَا خَالَفَ فِي الْبَعْضِ ثُمَّ رَجَعَ، أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِلْحِفْظِ شَهْرًا، فَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِهِ، ثُمَّ حَفِظَ فِي الْبَاقِي، اسْتَحَقَّ الأُْجْرَةَ بِقَدَرِهِ. (٢) وَقَال فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: وَلأَِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَبْطُل بِمَا يُنَافِيهِ، وَالاِسْتِعْمَال لاَ يُنَافِي الإِْيدَاعَ، وَلِذَا صَحَّ الأَْمْرُ بِالْحِفْظِ مَعَ الاِسْتِعْمَال ابْتِدَاءً، فَإِذَا زَال عَادَ حُكْمُ الْعَقْدِ. (٣)
وَفِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ نَقْلًا عَنِ الظَّهِيرِيَّةِ: أَنَّهُ يَزُول الضَّمَانُ عَنْهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَعْزِمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى التَّعَدِّي، حَتَّى لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ لَيْلًا، وَفِي عَزْمِهِ أَنْ يَلْبَسَهُ نَهَارًا، ثُمَّ سُرِقَ لَيْلًا، لاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ (٤) .
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ، لأَِنَّ حُكْمَ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ
_________
(١) قُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٤٩.
(٢) الْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٧.
(٣) مَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤١.
(٤) الْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٧، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ١ / ٢٤٩، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨.
الاِسْتِئْمَانُ، ارْتَفَعَ بِالْعُدْوَانِ، فَلاَ يَعُودُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ. (١)
(ح) - إِنْفَاقُ الْوَدِيعَةِ: ٥٣ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِنْفَاقَ الْوَدِيعِ لِلْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ ضَمَانَهَا، بِاعْتِبَارِهِ تَعَدَّى عَلَيْهَا، وَفَوَّتَ عَيْنَهَا وَأَتْلَفَهَا حُكْمًا عَلَى صَاحِبِهَا لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَنَفْعِ ذَاتِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتِ الْمَادَّةُ (٧٨٧) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَفَ الْمُسْتَوْدَعُ نُقُودَ الْوَدِيعَةِ فِي أُمُورِ نَفْسِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَهَا.
أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ لِنَفْعٍ يَتَعَلَّقُ بِمَالِكِهَا، كَمَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ غَائِبًا، فَفَرَضَ الْحَاكِمُ مِنَ النُّقُودِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ أَوْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ الْمُودَعِ لَدَيْهِ نَفَقَةً لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ قَرَابَتِهِ، فَصَرَفَ الْوَدِيعُ تِلْكَ النَّفَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ مِنَ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهِمْ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا. بِخِلاَفِ مَا إِذَا صَرَفَهَا لَهُمْ بِدُونِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، حَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَال الْغَيْرِ بِلاَ وَلاَيَةٍ وَلاَ نِيَابَةٍ عَنْهُ،
_________
(١) الأُْمّ ٤ / ٦٠، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٠، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٥، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٣ وَمَا بَعْدَهَا، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦.
إِذِ الْمُسْتَوْدَعُ نَائِبٌ عَنِ الْمُودَعِ فِي الْحِفْظِ، وَلَيْسَ نَائِبًا فِي شَيْءٍ آخَرَ. (١)
وَإِذَا أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهَا فِي مَكَانِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَضْمِينِهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ رَدَّ مِثْلَهَا ضَمِنَ.
وَقَال مَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ: لأَِنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالإِْنْفَاقِ، فَإِذَا أَزَال ذَلِكَ بِالرَّدِّ، وَجَبَ أَنْ يَزُول الضَّمَانُ، لِزَوَال سَبَبِهِ الْمُوجِبِ لَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. (٢)
٥٤ - وَلَوْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَكَانِهَا، فَلَمْ يُنْفِقْهَا، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا، لأَِنَّ الإِْخْرَاجَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ خِيَانَةٌ وَعُدْوَانٌ، فَتَبْطُل الْوَدِيعَةُ، وَيَضْمَنُ لِتَصَرُّفِهِ فِي مَال غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ. وَإِذَا ارْتَفَعَ الاِسْتِئْمَانُ، وَثَبَتَ الضَّمَانُ،
_________
(١) النَّتْف فِي الْفَتَاوَى للسغدي ٢ / ٥٧٩، ٥٨١، وَدُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٨١، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٨٨، وَالْمَادَّة ٧٩٩ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة.
(٢) الإِْشْرَاف عَلَى مَسَائِل الْخِلاَفِ لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب ٢ / ٤١، وَبِدَايَة الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١١، وَالإِْشْرَاف عَلَى مَذَاهِبِ أَهْل الْعِلْمِ لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٥٥، وَالْبَحْر الرَّائِق ٧ / ٢٧٧، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٤.
فَلاَ يَزُول عَنْهُ إِلاَّ بِاسْتِئْمَانٍ ثَانٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ: يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ، لأَِنَّهُ وَإِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالإِْخْرَاجِ، فَقَدْ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَوْضِعِهَا، فَبَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ. (١)
وَلَوْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ نُقُودًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي لاَ يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ، فَأَنْفَقَ الْوَدِيعُ بَعْضَهَا، ثُمَّ هَلَكَ الْبَاقِي، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ، اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُل، وَلاَ يَضْمَنُ الْبَاقِيَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِلاَّ إِتْلاَفُ قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَالضَّمَانُ إِنَّمَا يَجِبُ بِقَدْرِ الْخِيَانَةِ، وَقَدْ خَانَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلأَِنَّهُ فِي الْبَاقِي حَافِظٌ لِلْمِلْكِ، وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبِ الْبَاقِي، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَتَيْنِ، فَأَنْفَقَ إِحْدَاهُمَا، لاَ يَكُونُ ضَامِنًا لِلأُْخْرَى. (٢)
فَإِنْ رَدَّ مِثْل مَا أَنْفَقَ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَال
_________
(١) بِدَايَة الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١١، وَالإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٥٥، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٤، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٥، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٥٨.
(٢) مَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤٢، وَبَدَائِع الصَّنَائِع ٦ / ٢١٣، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٨، وَالْمَبْسُوط لِلسَّرْخَسِيَ ١١ / ١١١، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ للأتاسي ٣ / ٢٥٨، وَالتَّفْرِيع لاِبْن الْجَلاَّب ٢ / ٢٧١، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٧٧، وَالْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٤٧.
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ الْكُل - إِذَا خَلَطَهُ بِالْبَاقِي خَلْطًا لاَ يَتَمَيَّزُ - لِوُجُودِ إِتْلاَفِ الْكُل مِنْهُ: الْبَعْضُ بِالإِْنْفَاقِ، وَالْبَاقِي بِالْخَلْطِ، لِكَوْنِ الْخَلْطِ إِتْلاَفًا.
أَمَّا إِذَا تَمَيَّزَ الْمَخْلُوطُ مِنْ مَال الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالاَنِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الْقَدْرَ الَّذِي لَمْ يُنْفِقْهُ، لأَِنَّهُ بَاقٍ بِحَالِهِ كَمَا كَانَ، وَيَضْمَنُ الْمِقْدَارَ الَّذِي طَرَحَهُ عَلَيْهَا وَحْدَهُ، لأَِنَّ الضَّمَانَ تَعَلَّقَ بِالأَْخْذِ، فَلَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ مَا أَخَذَهُ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْل رَدِّهِ، فَلاَ يَضْمَنُ غَيْرَهُ. (١)
وَقَال مَالِكٌ: إِذَا أَنْفَقَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ رَدَّ مِثْل مَا أَنْفَقَ فِي مَكَانِهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَتْ. (٢)
وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا، فَلَمْ يُنْفِقْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، فَتَلِفَتْ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. لأَِنَّهُ وَإِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالأَْخْذِ، فَقَدْ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ إِلَى مَكَانِهِ، فَبَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ، وَلأَِنَّ
_________
(١) رَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٨، وَالْمَبْسُوطِ ١١ / ١١١، وَالْبَدَائِعِ ٦ / ٢١٣، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٤٨، وَمَجْمَع الأَْنْهُر ٢ / ٣٤٢، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٢٢، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٧، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٠، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٣٦.
(٢) الْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٤٧، وَالتَّفْرِيع لاِبْن الْجَلاَّب ٢ / ٢٧١.