الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٩
مَلاَءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الْمَلاَءَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ الْفِعْل مَلُؤَ - بِضَمِّ اللاَّمِ - قَال الْفَيُّومِيُّ: مَلُؤَ - بِالضَّمِّ - مَلاَءَةً، وَهُوَ أَمْلأَُ الْقَوْمِ أَيْ: أَقْدَرُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ، وَرَجُلٌ مَلِيءٌ - مَهْمُوزٌ - عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: غَنِيٌّ مُقْتَدِرٌ (١) .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: رَجُلٌ مَلِيءٌ: كَثِيرُ الْمَال بَيِّنُ الْمَلاَءِ، وَالْجَمْعُ مِلاَءٌ، وَقَدْ مَلُؤَ الرَّجُل يَمْلُؤُ مَلاَءَةً فَهُوَ مَلِيءٌ: صَارَ مَلِيئًا، أَيْ ثِقَةً، فَهُوَ غَنِيٌّ مَلِيءٌ: بَيِّنُ الْمِلاَءِ وَالْمَلاَءَةِ.
وَقَدْ أُولِعَ فِيهِ النَّاسُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (٢) .
_________
(١) المصباح المنير.
(٢) لسان العرب، ومختار الصحاح.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْمَلاَءَةُ: هِيَ الْغِنَى وَالْيَسَارُ (١) .
وَقَدْ فَسَّرَ أَحْمَدُ الْمَلاَءَةَ فَقَال: تُعْتَبَرُ الْمَلاَءَةُ فِي الْمَال وَالْقَوْل وَالْبَدَنِ، فَالْمَلِيءُ هُوَ مَنْ كَانَ قَادِرًا بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَالنَّظْمِ وَالْفُرُوعِ وَالْفَائِقِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَال الْبُهُوتِيُّ: زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَالْحَاوِيَيْنِ: وَفِعْلُهُ، وَزَادَ فِي الْكُبْرَى عَلَيْهِمَا: وَتَمَكُّنُهُ مِنَ الأَْدَاءِ.
فَالْمَلاَءَةُ فِي الْمَال: الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَفَاءِ، وَالْمَلاَءَةُ فِي الْقَوْل: أَنْ لاَ يَكُونَ مُمَاطِلًا.
وَالْمَلاَءَةُ فِي الْبَدَنِ: إِمْكَانُ حُضُورِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: هَذَا مَعْنَى كَلاَمِ الزَّرْكَشِيِّ.
ثُمَّ قَال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ: " فِعْلَهُ " يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ الْمَطْل إِذِ الْبَاذِل غَيْرُ مُمَاطِلٍ.
وَ: " تَمَكُّنُهُ مِنَ الأَْدَاءِ " يَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، إِذْ مَنْ مَالُهُ غَائِبٌ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَنَحْوُهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْوَفَاءِ، وَلِذَلِكَ أَسْقَطَهُمَا الأَْكْثَرُ وَلَمْ يُفَسِّرْهُمَا (٢) .
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٢ / ٩، ١٠، والهداية مع شروحها ٨ / ٣١٩ نشر دار إحياء التراث، وحاشية الجمل ٣ / ٢٦١، وجواهر الإكليل ٢ / ١١١، ١١٢، والمغني ٤ / ٥٨٢، والإقناع ٢ / ١٨٧.
(٢) كشاف القناع ٣ / ٣٨٦.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْعْسَارُ:
٢ - الإِْعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ، وَالْعُسْرُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَالإِْعْسَارُ وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ (١) .
وَالإِْعْسَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ أَوْ عَلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلاَ كَسْبٍ، أَوْ هُوَ زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ (٢) .
وَالإِْعْسَارُ ضِدُّ الْمَلاَءَةِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلاَءَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَلاَءَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ ٣ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ ف ٢٠، ٢١) .
ب - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي أَخْذِ الْمَشْفُوعِ
٤ - مِنْ أَحْكَامِ الشُّفْعَةِ: أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ بِمِثْل الثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ
_________
(١) لسان العرب.
(٢) المهذب ٢ / ١٦٢، ومغني المحتاج ٣ / ٤٢٦.
الْعَقْدُ وَقْتَ لُزُومِهِ قَدْرًا وَجِنْسًا وَصِفَةً (١)، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ (٢) .
فَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمِثْل ثَمَنِهِ مُؤَجَّلًا إِلَى أَجَلِهِ، لأَِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ، وَالتَّأْجِيل مِنْ صِفَتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
لَكِنَّ الشَّفِيعَ لاَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ إِلاَّ بِشُرُوطٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أَخْذَ الشِّقْصِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِالثَّمَنِ يَوْمَ الأَْخْذِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ لِيُسْرِهِ يَوْمَ حُلُول الأَْجَل فِي الْمُسْتَقْبَل، وَلاَ يَكْفِي تَحَقُّقُ يُسْرِهِ يَوْمَ حُلُول الأَْجَل بِنُزُول جَامَكِيَّةٍ أَوْ مَعْلُومِ وَظِيفَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَل إِذَا كَانَ يَوْمَ الأَْخْذِ مُعْسِرًا مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُشْتَرِي، وَلاَ يُرَاعَى خَوْفُ طُرُوِّ عُسْرِهِ قَبْل حُلُول الأَْجَل إِلْغَاءً لِلطَّارِئِ، لِوُجُودِ مُصَحِّحِ الْعَقْدِ يَوْمَ الأَْخْذِ وَهُوَ الْيُسْرُ.
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٥ / ١٤٧، والشرح الكبير للدردير ٣ / ٤٧٦، وحاشية الجمل ٣ / ٥٠٥، وكشاف القناع ٤ / ١٥٩.
(٢) حديث جابر ﵁: " فهو أحق بها بالثمن ". أخرجه أحمد (٣ / ٣١٠) ط المكتب الإسلامي وله أصل في الصحيحين.
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ مُوسِرًا يَوْمَ الأَْخْذِ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ أَوْ بِرَهْنٍ ثِقَةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ مُوسِرًا وَقْتَ الأَْخْذِ وَلَمْ يَأْتِ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ ثِقَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْجِيل الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي وَلَوْ بِبَيْعِ الشِّقْصِ لأَِجْنَبِيٍّ، فَإِنْ لَمْ يُعَجِّل الثَّمَنَ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
لَكِنْ إِذَا تَسَاوَى الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْعَدَمِ فَلاَ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ حِينَئِذٍ الإِْتْيَانُ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ، وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل، وَهَذَا عَلَى الْمُخْتَارِ.
وَمُقَابِل الْمُخْتَارِ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ الشَّفِيعُ مُعْدَمًا فَلاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِضَامِنٍ مَلِيءٍ وَلَوْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَدَمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَشَدَّ عَدَمًا مِنَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِحَمِيلٍ مَلِيءٍ، فَإِنْ أَبَى أَسْقَطَ الْحَاكِمُ شُفْعَتَهُ (١) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلًا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالأَْجَل إِنْ كَانَ الشَّفِيعُ مَلِيئًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِيئًا - بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا - أَقَامَ كَفِيلًا مَلِيئًا بِالثَّمَنِ وَأَخَذَ الشِّقْصَ
_________
(١) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه ٣ / ٤٧٨، وجواهر الإكليل ٢ / ١٥٨، ١٥٩.
بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلًا، لأَِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بِقَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ، وَالتَّأْجِيل مِنْ صِفَتِهِ، وَاعْتُبِرَتِ الْمَلاَءَةُ أَوِ الْكَفِيل دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي (١) .
هَذَا إِذَا كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ حَالًّا وَعَجَزَ الشَّفِيعُ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَوْ أَتَى الشَّفِيعُ بِرَهْنٍ أَوْ ضَمِينٍ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهُمَا وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مُحْرَزًا وَالضَّمِينُ مَلِيئًا، لِمَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ، وَالشُّفْعَةُ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلاَ تَثْبُتُ مَعَهُ (٢) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ: إِنْ كَانَ ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ مُؤَجَّلًا فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ أَخَذَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل ثُمَّ يَأْخُذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْحَال بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَلَيْسَ الرِّضَا بِالأَْجَل فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلاَءَةِ.
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّل تَنْزِيلًا لَهُ
_________
(١) كشاف القناع ٤ / ١٦٠، ١٦١، والمغني ٥ / ٣٥٠.
(٢) كشاف القناع ٤ / ١٦٠، وحاشية العدوي على شرح الرسالة ٢ / ٢٣٢.
مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، وَلأَِنَّ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ، وَالأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِالثَّمَنِ، فَيَأْخُذُهُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الزُّيُوفِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَأْخُذُهُ بِسِلْعَةٍ لَوْ بِيعَتْ إِلَى ذَلِكَ الأَْجَل لَبِيعَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ (١) .
ج - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي الضَّمَانِ ٥ - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ): أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَلاَءَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ ضَمَانُ كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا (٢)، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ ﵁ قَال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَل عَلَيْهَا. فَقَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لاَ، قَال: فَهَل تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ صَل عَلَيْهَا. قَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيل: نَعَمْ، قَال: فَهَل تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ. فَصَلَّى عَلَيْهَا. ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا:
_________
(١) تكملة فتح القدير ٨ / ٣١٩، ومغني المحتاج ٢ / ٣٠١.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٦، ومنح الجليل ٣ / ٢٤٦، وحاشية الدسوقي ٣ / ٣٣١، ومغني المحتاج ٢ / ١٩٨، ٢٠٠، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٤٨، والمغني ٤ / ٥٩٣.
صَل عَلَيْهَا. قَال: هَل تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ. قَال: فَهَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ. قَال: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَال أَبُو قَتَادَةَ: صَل عَلَيْهِ يَا رَسُول اللَّهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ (١) فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَدِينِ الَّذِي لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً (٢) .
وَعَلَّل أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ بِأَنَّ الْمَوْتَ لاَ يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لأَِنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ، فَلاَ يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، وَلِهَذَا بَقِيَ إِذَا مَاتَ مَلِيئًا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَكَذَا بَقِيَتِ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا (٣) .
وَبَنَى الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ - وَهُوَ الْمَدِينُ - لأَِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ فَالْتِزَامُهُ أَوْلَى، كَمَا يَصِحُّ الضَّمَانُ عَنِ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً (٤) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ - إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَكْفُول لَهُ أَنْ يَكُونَ مَلِيئًا، حَتَّى يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُول بِهِ إِمَّا
_________
(١) حديث: " كنا جلوسًا عند النبي ﷺ إذ أتي بجنازة فقالوا. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٤ / ٤٦٧ ط السلفية) .
(٢) المراجع السابقة، وتبيين الحقائق ٤ / ١٥٩ - ١٦٠.
(٣) بدائع الصنائع ٦ / ٦، وتبيين الحقائق ٤ / ١٥٩ - ١٦٠.
(٤) مغني المحتاج ٢ / ٢٠٠.
بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، لأَِنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عَنِ الْفِعْل، فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةً بِدَيْنٍ سَاقِطٍ كَمَا إِذَا كَفَل عَلَى إِنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَاتَ مَلِيئًا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ (١) .
د - أَثَرُ الْمَلاَءَةِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ ٦ - مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ وَكَانَ مَلِيئًا مُقِرًّا بِدَيْنِهِ أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الدَّيْنِ حِينَ طَلَبِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ (٢)، وَبِالطَّلَبِ يَتَحَقَّقُ الْمَطْل، إِذْ لاَ يُقَال: مَطَلَهُ إِلاَّ إِذَا طَالَبَهُ فَدَافَعَهُ (٣) .
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ لِلْقَادِرِ عَلَى الأَْدَاءِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّلَبِ.
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمْل: يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٦.
(٢) حديث: " مطل الغني ظلم ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٤ / ٤٦٦ ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٩٧ ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٣) بدائع الصنائع ٧ / ١٧٣، والاختيار ٢ / ٨٩، ٩٠، والهداية ٣ / ١٠٤، وتكملة فتح القدير ٧ / ٢٧٨ نشر دار الفكر، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ٣ / ٢٧٩، ومنح الجليل ٣ / ١٤٣، ومغني المحتاج ٢ / ١٥٧، وكشاف القناع ٣ / ٤١٨، والمغني ٤ / ٤٩٩ - ٥٠١.
أَدَاءُ الدَّيْنِ فَوْرًا إِنْ خَافَ فَوْتَ أَدَائِهِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ إِمَّا بِمَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ أَوْ بِذَهَابِ مَالِهِ، أَوْ خَافَ مَوْتَ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ طَالَبَهُ رَبُّ الدَّيْنِ، أَوْ عَلِمَ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَارِزِيُّ (١) .
٧ - وَإِذَا أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالأَْدَاءِ فَطَلَبَ إِمْهَالَهُ لِبَيْعِ عُرُوضِهِ لِيُوفِيَ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِل بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، لَكِنْ لاَ يُؤَجَّل إِلاَّ إِذَا أَعْطَى حَمِيلًا بِالْمَال، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ (٢) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ لِلْمَدِينِ الْقَادِرِ عَلَى الْوَفَاءِ سِلْعَةٌ، فَطَلَبَ مِنْ رَبِّ الْحَقِّ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يَبِيعَهَا وَيُوفِيَهُ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهَا أُمْهِل بِقَدْرِ ذَلِكَ، أَيْ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهَا وَالْوَفَاءِ مِنْ ثَمَنِهَا.
وَكَذَا إِنْ طُولِبَ بِمَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ وَمَالُهُ بِدَارِهِ أَوْ مُودَعٌ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ فَيُمْهَل بِقَدْرِ مَا يُحْضِرُهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَ الْمَدِينَ أَنْ يَحْتَال لِوَفَاءِ دَيْنِهِ بِاقْتِرَاضِ وَنَحْوِهِ فَيُمْهَل بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْبَسُ لِعَدَمِ امْتِنَاعِهِ مِنَ الأَْدَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (٣) .
_________
(١) حاشية الجمل ٣ / ٣٨٨.
(٢) شرح الدردير وحاشية الدسوقي ٣ / ٢٧٩، وجواهر الإكليل ٢ / ٩٢.
(٣) سورة البقرة / ٢٨٦.