الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٧
أَوَّلًا: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ:
٩ - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْدٌ ف ٢٨ وَمَا بَعْدَهَا) .
ثَانِيًا: مَا يَخُصُّ الْبَذْرَ:
١٠ - الْبَذْرُ: هُوَ كُل حَبٍّ يُزْرَعُ فِي الأَْرْضِ (١)، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، بِأَنْ يُبَيِّنَ جِنْسَهُ، وَنَوْعَهُ، وَوَصْفَهُ (٢) .
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ إِعْلاَمَ جِنْسِ الأُْجْرَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إِلاَّ بِبَيَانِ جِنْسِ الْبَذْرِ.
وَأَنَّ حَال الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ فِي الأَْرْضِ، وَرُبَّ آخَرَ يَنْقُصُهَا، وَقَدْ يَكْثُرُ النُّقْصَانُ وَقَدْ يَقِل فَوَجَبَ الْبَيَانُ وَالتَّحْدِيدُ، حَتَّى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إِلَى الْتِزَامِهِ.
وَإِذَا عَيَّنَ صَاحِبُ الأَْرْضِ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ كَالْقُطْنِ أَوِ الْقَمْحِ أَوِ الأُْرْزِ مَثَلًا وَجَبَ عَلَى الْمُزَارِعِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِزِرَاعَتِهِ، فَإِذَا خَالَفَ وَقَامَ بِزِرَاعَةِ نَوْعٍ آخَرَ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ
_________
(١) المعجم الوسيط.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ١٧٧، وتبيين الحقائق ٥ / ٢٧٩، وحاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٦، والمبسوط ٢٣ / ١٩، وتكملة البحر الرائق ٨ / ١٨٢، ومنتهى الإرادات ٢ / ٣٤٦، وكشاف القناع ٣ / ٥٤٢.
وَإِمْضَائِهِ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْمُزَارِعِ بِالشَّرْطِ الصَّحِيحِ.
أَمَّا لَوْ أَطْلَقَ صَاحِبُ الأَْرْضِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الزَّرْعِ، بِأَنْ قَال لِلْمُزَارِعِ: ازْرَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَشَاءُ، لأَِنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الأَْمْرَ إِلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يَنْجُمُ عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَرَضِيَ أَيْضًا بِأَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ النِّسْبَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَحْصُولٍ تُنْتِجُهُ الأَْرْضُ (١) .
إِلاَّ أَنَّ لِرَبِّ الأَْرْضِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَلاَّ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِأَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ - إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَجَرٌ - فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
(ر: شَرْطٌ ف ١٩، ٢٠)
تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ
١١ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَحْدِيدِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ الَّذِي يُزْرَعُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، لأَِنَّ هَذَا تُحَدِّدُهُ حَاجَةُ الأَْرْضِ إِلَيْهِ (٢) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْبَذْرِ لأَِنَّهَا مُعَاقَدَةٌ عَلَى عَمَلٍ، فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومِ الْجَنْسِ وَالْقَدْرِ كَالأُْجْرَةِ (٣) .
_________
(١) تبيين الحقائق ٥ / ٢٧٩.
(٢) حاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٦.
(٣) شرح منتهى الإرادات ٢ / ٣٤٦، وكشاف القناع ٣ / ٥٤٢.
الطَّرَفُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ الْبَذْرُ
١٢ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْمُزَارِعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، فَوَجَبَ بَيَانُ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ، لأَِنَّ عَدَمَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ: يُحَكَّمُ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ إِنِ اتَّحَدَ وَإِلاَّ فَسَدَ (١) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا مَعًا، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ مُقَابِل الأَْرْضِ (٢) لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى كِرَاءِ الأَْرْضِ بِمَمْنُوعٍ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الأَْرْضِ بِطَعَامٍ كَالْعَسَل، أَوْ بِمَا تُنْبِتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا كَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ مِنْهُمَا مَعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ خَلْطِ مَا أَخَرَجَاهُ مِنْ بَذْرٍ.
فَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً وَلاَ حُكْمًا، وَهُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، فَلَوْ بَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ فِي جِهَةٍ أَوْ فَدَّانٍ غَيْرَ الآْخَرِ، جَازَتِ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ أَنْ يَتَمَاثَل الْبَذْرَانِ
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ١٧٧، وحاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٥، ٢٩٣، والمبسوط ٢٣ / ١٩، والهداية مع تكملة الفتح ٩ / ٤٦٤.
(٢) حاشية الدسوقي ٣ / ٣٧٣، ٣٧٤، والخرشي ٦ / ٦٣ وما بعدها.
جِنْسًا وَصِنْفًا، فَلَوْ أَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَمْحًا، وَالآْخَرُ شَعِيرًا - مَثَلًا - فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ لاَ تَصِحُّ، وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ بَذْرُهُ وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأَْكْرِيَةِ، وَقِيل: يَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ.
وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ لِسَحْنُونٍ - وَهُوَ قَوْل خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ - أَنَّهُ يُشْرَطُ الْخَلْطُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
فَالْخَلْطُ الْحَقِيقِيُّ يَكُونُ بِضَمِّ بَذْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى بَذْرِ صَاحِبِهِ ثُمَّ يُبْذَرُ الْجَمِيعُ فِي الأَْرْضِ.
أَمَّا الْحُكْمِيُّ فَيَكُونُ بِأَنْ يَحْمِل كُلٌّ مِنْهُمَا بَذْرَهُ إِلَى الأَْرْضِ وَيَبْذُرَهُ بِهَا بِدُونِ تَمَيُّزٍ لأَِحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بَذْرُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأَْرْضِ انْتَفَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لِكُل مِنْهُمَا مَا أَنْبَتَهُ حَبُّهُ، وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الأَْكْرِيَةِ وَيَتَقَاصَّانِ (١) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْبَذْرِ مِنْ رَبِّ الأَْرْضِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بَعْضُهُمْ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهِيَ أَقْوَى دَلِيلًا.
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ اشْتِرَاطُهُ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ (٢) .
_________
(١) المراجع السابقة.
(٢) الإنصاف ٥ / ٤٨٣.
ثَالِثًا: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ (قِسْمَةُ الْمَحْصُول)
١٣ - يُقْصَدُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ:
الْمَحْصُول الَّذِي سَيُقْسَمُ عَلَى أَطْرَافِ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ شُرُوطٌ هِيَ:
أ - أَنْ يُبَيِّنَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ نَصِيبَ مَنْ لاَ بَذْرَ لَهُ مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، فَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الأُْجْرَةِ مُفْسِدٌ لِلإِْجَارَةِ، فَكَذَلِكَ السُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْخَارِجِ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَقَالُوا - أَيِ الْحَنَفِيَّةُ -: يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ نَصِيبَ مَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ، لأَِنَّهُ أُجْرَةُ عَمَلِهِ أَوْ أَرْضِهِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَإِذَا لَمْ يُسَمِّ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَسَمَّى مَا لِلآْخَرِ جَازَ، لأَِنَّ مَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، أَمَّا صَاحِبُ الْبَذْرِ فَيَسْتَحِقُّ بِمِلْكِهِ الْبَذْرَ فَلاَ يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُهُ بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ سَمَّى نَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا لِلآْخَرِ، فَفِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا لاَ حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ وَتَرَكُوا مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَمَنْ لاَ بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَبِدُونِ الشَّرْطِ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَلَكِنْ فِي الاِسْتِحْسَانِ عِنْدَهُمْ: الْخَارِجُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالتَّنْصِيصُ عَلَى
نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَيَانًا بِأَنَّ الْبَاقِيَ لِلآْخَرِ (١) .
ب - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ صَاحِبِ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُزَارَعَةِ، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ لأَِحَدِهِمَا فَقَطْ، فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لاَزِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ وَكُل شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لَهَا يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَالْمُزَارَعَةُ تَنْعَقِدُ إِجَارَةً فِي الاِبْتِدَاءِ، وَتَقَعُ شَرِكَةً فِي الاِنْتِهَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
ج - أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ ذَاتِهَا، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ تَكُونَ الْحِصَّةُ مِنْ مَحْصُول أَرْضٍ أُخْرَى بَطَلَتِ الْمُزَارَعَةُ، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ وَلَيْسَتْ كَالإِْجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ.
د - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنَ الْخَارِجِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، سَوَاءٌ بِالتَّسَاوِي أَوْ بِالتَّفَاوُتِ حَسَبَ الاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ تَرْكَ التَّقْدِيرِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مِقْدَارِ الأُْجْرَةِ فِي الإِْجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ والْحَنَابِلَةَ فِي الْمَذْهَبِ اشْتَرَطُوا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ إِذَا كَانَ الْبَذْرُ
_________
(١) المبسوط ٢٣ / ٢٣، وتبيين الحقائق ٥ / ٢٧٩، ٢٨٠، وتكملة البحر الرائق ٨ / ١٨٢، وحاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٥، ٢٧٦.
مِنْهُمَا مُتَسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ مُتَفَاضِلًا فَعَلَى قَدْرِ بَذْرِ كُلٍّ (١) .
هـ - أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْخَارِجِ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْجُمْلَةِ كَالنِّصْفِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا كَمِّيَّةً مُعَيَّنَةً مِنَ الْمَحْصُول كَعَشَرَةِ أَرَادِبَّ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ خَمْسَةِ قَنَاطِيرَ مِنَ الْقُطْنِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ فِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ - كَمَا سَبَقَ - وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الإِْجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْخَارِجِ لأَِحَدِهِمَا يَنْفِي لُزُومَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، لاِحْتِمَال أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تُخْرِجُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ فَلاَ يَبْقَى لِلطَّرَفِ الآْخَرِ شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْبَذْرِ لِنَفْسِهِ وَالْبَاقِي يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لاِحْتِمَال أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تُنْتِجُ إِلاَّ قَدْرَ الْبَذْرِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، وَيُحْرَمُ الآْخَرُ مِنَ الْمَحْصُول، فَيَنْتَفِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَلأَِنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ فِي الْحَقِيقَةِ شَرَطَ قَدْرَ الْبَذْرِ لَهُ لاَ عَيْنَ بَذْرِهِ، لأَِنَّ عَيْنَهُ تَهْلِكُ فِي التُّرَابِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِ كَمِّيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَحْصُول لَهُ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ
_________
(١) حاشية الدسوقي ٣ / ٣٧٣، وكشاف القناع ٣ / ٣٤٤.
الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ زَرْعُ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأَْرْضِ، وَلِلْمُزَارِعِ زَرْعُ النَّاحِيَةِ الأُْخْرَى، وَمِثْل هَذَا الاِتِّفَاقِ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ مَا عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِل إِمَّا مُنْفَرِدًا أَوْ بِالإِْضَافَةِ إِلَى نَصِيبِهِ (١) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قِيسٍ الأَْنْصَارِيِّ قَال: سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ ﵁ عَنْ كِرَاءِ الأَْرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَقَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ (٢) وَإِقْبَال الْجَدَاوِل وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (٣) .
وَبِأَنَّ اشْتِرَاطَ زَرْعِ نَاحِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ يَمْنَعُ لُزُومَ الشَّرِكَةِ فِي الْعَقْدِ، لأَِنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَقَدْ يَتْلَفُ زَرْعُ مَا عُيِّنَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْغَلَّةِ دُونَ صَاحِبِهِ.
رَابِعًا: مَا يَخُصُّ الأَْرْضَ (مَحَل الْمُزَارَعَةِ):
١٤ - الْمَزْرُوعُ فِيهِ هُوَ: الأَْرْضُ، وَقَدِ اشْتَرَطَ
_________
(١) المراجع السابقة، وانظر الهداية مع تكملة فتح القدير ٩ / ٤٦٩.
(٢) الماذيانات جمع (ماذيان) وهو أصغر من النهر، فارسي معرب، وقيل: ما يجتمع فيه ماء السيل ثم يسقى منه الأرض (المغرب) .
(٣) حديث: " لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون. . ". أخرجه مسلم (٣ / ١١٨٣) .
الْفُقَهَاءُ فِيهَا شُرُوطًا هِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَحَل الْمُزَارَعَةِ مَعْلُومَةً أَيْ مُعَيَّنَةً تَعْيِينًا نَافِيًا لِلْجَهَالَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ (١) .
ب - أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، بِأَنْ كَانَتْ سَبِخَةً، أَوْ نَزَّةً، فَإِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَيْهَا لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ، وَالأُْجْرَةُ فِيهَا بَعْضُ الْخَارِجِ، وَالأَْرْضُ الَّتِي لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ لاَ تَجُوزُ إِجَارَتُهَا، فَلاَ تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ لاَ يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ التَّعَاقُدِ لِعَارِضٍ مُؤَقَّتٍ كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ أَوْ فِي زَمَنِ الْفَيَضَانِ، أَوْ كَثْرَةِ الثُّلُوجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال فِي مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ صَحِيحًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (٢) .
ج - التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْعَامِل لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَل فِيهَا بِلاَ مَانِعٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ أَوْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَسَدَتِ الْمُزَارَعَةُ لاِنْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الأَْرْضِ وَالْمُزَارِعِ
وَالتَّخْلِيَةُ أَنْ يَقُول صَاحِبُ الأَْرْضِ لِلْعَامِل:
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ١٧٨، والفتاوى الهندية ٥ / ٢٣٦، والمبسوط ٢٣ / ٤٢، وكشاف القناع ٣ / ٥٤٢.
(٢) حاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٥، والفتاوى الهندية ٥ / ٢٣٥.
سَلَّمْتُ إِلَيْكَ الأَْرْضَ، وَمِنَ التَّخْلِيَةِ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ فَارِغَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ نَبَتَ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِعَمَل الزِّرَاعَةِ بِأَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَمَل بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ لأَِنَّ مَا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَل بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ (١) .
جِوَازُ الْمُزَارَعَةِ بِالأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ نَقْدًا
١٥ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَنْفَعَتِهَا فَقَطْ، وَعَلَى ذَلِكَ: لَوِ اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ أَرْضًا مِنَ الْغَيْرِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَبْلَغٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَال، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا الْمُسْتَأْجَرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الأَْرْضَ مُزَارَعَةً إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِعْيَارَ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الأَْرْضِ مَمْلُوكَةً لِمَنْ يُزَارِعُ عَلَيْهَا، أَمَّا مَلَكِيَّةُ رِقْبَتِهَا فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِذَلِكَ (٢) .
خَامِسًا: مَا يَخُصُّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ:
١٦ - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ فِي الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٦ / ٢٧٥، والفتاوى الهندية ٥ / ٢٣٥، وبدائع الصنائع ٦ / ١٧٨، وتبيين الحقائق ٥ / ٢٧٩، وتكملة البحر الرائق ٨ / ١٨١، ومنتهى الإرادات ١ / ٤٧١، وكشاف القناع ٣ / ٥٣٤.
(٢) حاشية ابن عابدين ٦ / ٢٨٤، والمبسوط ٢٣ / ٧٦، وحاشية الدسوقي ٣ / ٣٧٦، والخرشي ٦ / ٦٥، والمغني ٥ / ٤١٣، وكشاف القناع ٣ / ٥٤١.