الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٢
أَسْقَطَهُ، فَيُسْقِطُ فِي الزَّكَاةِ مَثَلًا زَكَاةَ مَال الصَّغِيرِ، وَزَكَاةَ مَال التِّجَارَةِ، وَزَكَاةَ الْفُلُوسِ وَمَا شَابَهَهَا، وَزَكَاةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعَشَّرَاتِ، وَيُسْقِطُ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ، وَيُجِيزُ النَّبِيذَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِل بِكُل رُخْصَةٍ: بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ، كَانَ فَاسِقًا. اهـ وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: مَنْ أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِْسْلاَمِ.
وَإِنْ أَفْتَى كُل أَحَدٍ بِمَا يَشْتَهِي انْخَرَمَ قَانُونُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى وَالْمَظَالِمِ وَتَضْيِيعِ الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَال ابْنُ سُرَيْجٍ: سَمِعْتُ إِسْمَاعِيل الْقَاضِيَ قَال: دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا نَظَرْتُ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: مُؤَلِّفُ هَذَا الْكِتَابِ زِنْدِيقٌ، فَقَال: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ؟ قُلْتُ: الأَْحَادِيثُ عَلَى مَا رُوِيَتْ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ هَذَا الْكِتَابِ.
عَلَى أَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى هَذَا الْقَوْل لَمْ يَمْنَعُوا
الإِْفْتَاءَ بِمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ إِنْ كَانَ لَهُ مُسْتَنَدٌ صَحِيحٌ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَتَبُّعَ الْمُفْتِي الرُّخَصَ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ: فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُ الْمُفْتِي فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لاَ شُبْهَةَ فِيهَا، وَلاَ مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ، بَل اسْتُحِبَّ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ ﵇ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْحِنْثِ: بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، قَال: فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنَ الْمَآثِمِ، وَأَقْبَحُهَا مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ. (١)
إِحَالَةُ الْمُفْتِي عَلَى غَيْرِهِ:
٢٧ - لِلْمُفْتِي أَنْ يُحِيل الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْتِينَ، إِمَّا بِقَصْدِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى، وَإِمَّا لِكَوْنِ الآْخَرِ أَعْلَمَ، وَإِمَّا لِظَرْفٍ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإِْحَالَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْفُتْيَا، سَوَاءٌ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ فِي الرَّأْيِ أَوْ يُخَالِفُهُ، فَإِنْ أَحَال عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ، قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: الرَّجُل يَسْأَل عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَدُلُّهُ عَلَى إِنْسَانٍ؟ قَال: إِذَا كَانَ مُتَّبِعًا وَيُفْتِي بِالسُّنَّةِ، قُلْتُ: إِنَّهُ يُرِيدُ
_________
(١) الموافقات ٤ / ١١٨، وما بعدها ١٣٤،١٤٠، ١٥٥، ٢٥٩ والبحر المحيط ٦ / ٣٢٤، ٣٢٧، وإرشاد الفحول ص٢٧٢، وإعلام الموقعين ٤ / ٢٢٢، والمجموع للنووي ١ / ٥٥.
الاِتِّبَاعَ وَلَيْسَ كُل قَوْلِهِ يُصِيبُ، قَال: وَمَنْ يُصِيبُ فِي كُل شَيْءٍ؟ .
لَكِنْ لاَ يَحِل أَنْ يَدُل عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْقَوْل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، لأَِنَّ اجْتِهَادَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ، أَوْ كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مِمَّنْ يَتَسَاهَل فِي الْفَتْوَى فَلاَ تَجُوزُ الإِْحَالَةُ. (١)
تَشْدِيدُ الْمُفْتِي وَتَسَاهُلُهُ:
٢٨ - الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ تَتَمَيَّزُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْيُسْرِ، وَلِذَا فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي - وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال الشَّاطِبِيُّ: الْمُفْتِي الْبَالِغُ ذُرْوَةَ الدَّرَجَةِ هُوَ الَّذِي يَحْمِل النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلاَ يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلاَ يَمِيل بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الاِنْحِلاَل، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ ﵁ التَّبَتُّل (٢) وَقَال لِمُعَاذٍ ﵁
_________
(١) إعلام الموقعين ٤ / ٢٠٧ وصفة المفتي لابن حمدان ص٨٢.
(٢) حديث: " رد النبي ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل " أخرجه البخاري (فتح الباري ٩ / ١١٧) ومسلم (٢ / ١٠٢٠) .
لَمَّا أَطَال بِالنَّاسِ الصَّلاَةَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (١)، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَال، وَلأَِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ بِالْمُسْتَفْتِي مَذْهَبَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ بَغَّضَ إِلَيْهِ الدِّينَ، وَإِذَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الاِنْحِلاَل كَانَ مَظِنَّةً لِلْمَشْيِ مَعَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ. (٢)
وَجَاءَ فِي الْمُنْتَهَى وَشَرْحِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ تَسَاهُل مُفْتٍ فِي الإِْفْتَاءِ، لِئَلاَّ يَقُول عَلَى اللَّهِ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ مُتَسَاهِلٍ فِي الإِْفْتَاءِ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِهِ، وَقَال مِثْل ذَلِكَ النَّوَوِيُّ.
وَبَيَّنَ السَّمْعَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّ التَّسَاهُل نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وَالشُّبَهِ وَالْحِيَل الْمَكْرُوهَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَسَاهَل فِي طَلَبِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ الأَْحْكَامِ وَيَأْخُذَ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِل الْفِكْرِ، فَهَذَا مُقَصِّرٌ فِي حَقِّ الاِجْتِهَادِ، فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ كَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَقَدَّمْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُول عَنْهُ. (٣)
لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَشَدَّدَ فِي
_________
(١) حديث: أنه قال لمعاذ: " يا معاذ أفتان أنت ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٢ / ٢٠٠) ومسلم (١ / ٣٣٩) من حديث جابر بن عبد الله.
(٢) الموافقات ٤ / ٢٥٨.
(٣) شرح المنتهى ٣٣ / ٤٥٧، والمجموع ١ / ٤٦ وصفة المفتي لابن حمدان ص٣١.
الْفَتْوَى عَلَى سَبِيل السِّيَاسَةِ لِمَنْ هُوَ مُقْدِمٌ عَلَى الْمَعَاصِي مُتَسَاهِلٌ فِيهَا، وَأَنْ يَبْحَثَ عَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيل عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الأَْدِلَّةُ لِمَنْ هُوَ مُشَدِّدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لِيَكُونَ مَآل الْفَتْوَى أَنْ يَعُودَ الْمُسْتَفْتِي إِلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ. (١)
آدَابُ الْمُفْتِي:
٢٩ - أ - يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُحْسِنَ زِيَّهُ، مَعَ التَّقَيُّدِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَيُرَاعِيَ الطَّهَارَةَ وَالنَّظَافَةَ، وَاجْتِنَابَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شِعَارَاتِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ لَبِسَ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَةِ لَكَانَ أَدْعَى لِقَبُول قَوْلِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٢) وَلأَِنَّ تَأْثِيرَ الْمَظْهَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لاَ يُنْكَرُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْقَاضِي (٣) .
ب - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ سِيرَتَهُ، بِتَحَرِّي مُوَافَقَةِ الشَّرِيعَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، لأَِنَّهُ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ فِيمَا يَقُول وَيَفْعَل، فَيَحْصُل بِفِعْلِهِ قَدْرٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَيَانِ، لأَِنَّ الأَْنْظَارَ إِلَيْهِ مَصْرُوفَةٌ، وَالنُّفُوسَ عَلَى
_________
(١) المجموع ١ / ٥٠، ٤٦.
(٢) سورة الأعراف / ٣٢.
(٣) الإحكام للقرافي ص٢٧١، وشرح المنتهى ٣ / ٤٦٨.
الاِقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ (١) .
ج - وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصْلِحَ سَرِيرَتَهُ وَيَسْتَحْضِرَ عِنْدَ الإِْفْتَاءِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ مِنْ قَصْدِ الْخِلاَفَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَيَانِ الشَّرْعِ، وَإِحْيَاءِ الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِصْلاَحِ أَحْوَال النَّاسِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْأَلَهُ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَعَلَيْهِ مُدَافَعَةُ النِّيَّاتِ الْخَبِيثَةِ مِنْ قَصْدِ الْعُلُوِّ فِي الأَْرْضِ وَالإِْعْجَابِ بِمَا يَقُول، وَخَاصَّةً حَيْثُ يُخْطِئُ غَيْرُهُ وَيُصِيبُ هُوَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَحْنُونٍ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَال. (٢)
د - وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِمَا يُفْتِي بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، مُنْتَهِيًا عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، لِيَتَطَابَقَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ مُؤَيِّدًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ، وَصَادًّا لِلْمُسْتَفْتِي عَنْ قَبُولِهِ وَالاِمْتِثَال لَهُ، لِمَا فِي الطَّبَائِعِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالأَْفْعَال، وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الإِْفْتَاءُ فِي تِلْكَ الْحَال، إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا مُنْتَهِيًا، وَهَذَا مَا لَمْ
_________
(١) تبصرة الحكام لابن فرحون ص٢١.
(٢) صفة الفتوى لابن حمدان ص١١، وإعلام الموقعين ٤ / ١٧٢.
تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُسْقِطَةً لِعَدَالَتِهِ، فَلاَ تَصِحُّ فُتْيَاهُ حِينَئِذٍ. (١)
هـ - أَنْ لاَ يُفْتِيَ حَال انْشِغَال قَلْبِهِ بِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ إِرْهَاقٍ أَوْ تَغَيُّرِ خُلُقٍ، أَوْ كَانَ فِي حَال نُعَاسٍ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحَاجَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ وَاسْتِقَامَةَ الْحُكْمِ. (٢) لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (٣) فَإِنْ حَصَل لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الإِْفْتَاءِ حَتَّى يَزُول مَا بِهِ وَيَرْجِعَ إِلَى حَال الاِعْتِدَال. فَإِنْ أَفْتَى فِي حَال انْشِغَال الْقَلْبِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّوَابِ صَحَّتْ فُتْيَاهُ وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا (٤) لَكِنْ قَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِكَوْنِ ذَلِكَ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ.
فَإِنْ أَخْرَجَهُ الدَّهَشُ عَنْ أَصْل الْفِكْرِ لَمْ تَصِحَّ فُتْيَاهُ قَطْعًا وَإِنْ وَافَقَتِ الصَّوَابَ. (٥)
وإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَدِينِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَاوِرَهُ، وَلاَ يَسْتَقِل بِالْجَوَابِ تَسَامِيًا
_________
(١) الموافقات للشاطبي ٤ / ٢٥٢ - ٢٥٨.
(٢) إعلام الموقعين ٤ / ٢٢٧، وصفة الفتوى لابن حمدان ص٣٤.
(٣) حديث: " لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري ١٣ / ١٣٦) ومسلم (٣ / ١٣٤٣) من حديث أبي بكرة، واللفظ للبخاري.
(٤) إعلام الموقعين ٤ / ٢٢٧، وصفة الفتوى لابن حمدان ص٣٤.
(٥) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي ٤ / ١٤٠.
بِنَفْسِهِ عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ﴾ (١) وَعَلَى هَذَا كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَخَاصَّةً عُمَرُ ﵁، فَالْمَنْقُول مِنْ مُشَاوَرَتِهِ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ، وَيُرْجَى بِالْمُشَاوَرَةِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَا قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنِ الْمُشَاوَرَةُ مِنْ قَبِيل إِفْشَاءِ السِّرِّ. (٢)
ز - الْمُفْتِي كَالطَّبِيبِ يَطَّلِعُ مِنْ أَسْرَارِ النَّاسِ وَعَوْرَاتِهِمْ عَلَى مَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَضُرُّ بِهِمْ إِفْشَاؤُهَا أَوْ يُعَرِّضُهُمْ لِلأَْذَى، فَعَلَيْهِ كِتْمَانُ أَسْرَارِ الْمُسْتَفْتِينَ، وَلِئَلاَّ يَحُول إِفْشَاؤُهُ لَهَا بَيْنَ الْمُسْتَفْتِي وَبَيْنَ الْبَوْحِ بِصُوَرِهِ الْوَاقِعَةِ إِذَا عَرَفَ أَنَّ سِرَّهُ لَيْسَ فِي مَأْمَنٍ. (٣)
مُرَاعَاةُ حَال الْمُسْتَفْتِي:
٣٠ - يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي مُرَاعَاةُ أَحْوَال الْمُسْتَفْتِي، وَلِذَلِكَ وُجُوهٌ، مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي بَطِيءَ الْفَهْمِ، فَعَلَى الْمُفْتِي التَّرَفُّقُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَالِهِ وَتَفْهِيمِ جَوَابِهِ. (٤)
ب - إِذَا كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى تَفْهِيمِهِ أُمُورًا شَرْعِيَّةً لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهَا فِي سُؤَالِهِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي
_________
(١) سورة آل عمران / ١٥٩.
(٢) إعلام الموقعين ٤ / ٢٥٦، والمجموع للنووي ١ / ٤٨.
(٣) بصرة الحكام لابن فرحون ١١ / ٢٢٠ بهامش فتح العلي المالك وإعلام الموقعين ٤ / ٢٥٧.
(٤) المجموع للنووي ١ / ٤٨.
بَيَانُهَا لَهُ زِيَادَةً عَلَى جَوَابِ سُؤَالِهِ، نُصْحًا وَإِرْشَادًا، وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ ﵃ سَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَال: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ (١) وَلِلْمُفْتِي أَنْ يَعْدِل عَنْ جَوَابِ السُّؤَال إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُل مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (٢) فَقَدْ سَأَل النَّاسُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْمُنْفَقِ فَأَجَابَهُمْ بِذِكْرِ الْمَصْرِفِ إِذْ هُوَ أَهَمُّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ. (٣)
ج - أَنْ يَسْأَلَهُ الْمُسْتَفْتِي عَمَّا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَيُفْتِيَهِ بِالْمَنْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَا هُوَ عِوَضٌ مِنْهُ، كَالطَّبِيبِ الْحَاذِقِ إِذَا مَنَعَ الْمَرِيضَ مِنْ أَغْذِيَةٍ تَضُرُّهُ يَدُلُّهُ عَلَى أَغْذِيَةٍ تَنْفَعُهُ. (٤)
د - أَنْ يُسْأَل عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، فَيَتْرُكُ الْجَوَابَ إِشْعَارًا لِلْمُسْتَفْتِي بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ السُّؤَال عَمَّا يَعْنِيهِ مِمَّا لَهُ فِيهِ نَفْعٌ وَوَرَاءَهُ عَمَلٌ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ
_________
(١) حديث: " هو الطهور ماؤه. . . ". أخرجه الترمذي (١ / ١٠١) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(٢) سورة البقرة / ٢١٥.
(٣) إعلام الموقعين ٤ / ١٥٨.
(٤) إعلام الموقعين ٤ / ١٥٩.
ثَلاَثًا: قِيل وَقَال، وَإِضَاعَةَ الْمَال، وَكَثْرَةَ السُّؤَال (١) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لاَ يَعْنِيهِ فَلاَ تُفْتِهِ (٢) .
هـ - أَنْ يَكُونَ عَقْل السَّائِل لاَ يَحْتَمِل الْجَوَابَ، فَيَتْرُكُ إِجَابَتَهُ وُجُوبًا، لِقَوْل عَلِيٍّ ﵁: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً (٣) .
وتَرْكُ الْجَوَابِ إِذَا خَافَ الْمُفْتِي غَائِلَةَ الْفُتْيَا (٤) أَيْ هَلاَكًا أَوْ فَسَادًا أَوْ فِتْنَةً يُدَبِّرُهَا الْمُسْتَفْتِي أَوْ غَيْرُهُ.
وَالأَْصْل وُجُوبُ الْبَيَانِ وَتَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ إِنْ كَانَ الْحُكْمُ جَلِيًّا (٥) فَلاَ يَتْرُكُ الْمُفْتِي بَيَانَهُ لِرَغْبَةٍ وَلاَ رَهْبَةٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا
_________
(١) حديث: " إن الله كره لكم ثلاثًا. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري ٥ / ٦٨) ومسلم (٣ / ١٣٤١) من حديث المغيرة بن شعبة واللفظ لمسلم.
(٢) شرح المنتهى ٣ / ٤٥٧، وإعلام الموقعين ٤ / ٢٢١، والموافقات ٤ / ٢٨٦ - ٢٩٠.
(٣) شرح المنتهى ٣ / ٤٥٧، والموافقات ٤ / ٣١٣.
(٤) شرح المنتهى ٣ / ٤٥٨.
(٥) إعلام الموقعين ٤ / ١٧٥.