الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٩ الصفحة 2

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٩

تَرِبَتْ يَدَاك (١) وَقَال لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عِنْدَمَا خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (٢) . وَقَال: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُْمَمَ (٣)، وَقَال لأَِوْلِيَاءِ النِّسَاءِ: إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَْرْضِ وَفَسَادٌ (٤) .

إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ - عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ - قَدْ لاَ يَضْمَنُ اسْتِمْرَارَ السَّعَادَةِ وَالاِسْتِقْرَارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَرُبَّمَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الأَْخْذِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرُبَّمَا أَخَذَا بِهِ، وَلَكِنْ جَدَّ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ الْهَانِئَيْنِ مَا يُثِيرُ بَيْنَهُمَا الْقَلاَقِل وَالشِّقَاقَ، كَمَرَضِ أَحَدِهِمَا أَوْ عَجْزِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ عَنَاصِرَ خَارِجَةٍ عَنِ الزَّوْجَيْنِ أَصْلًا، كَالأَْهْل وَالْجِيرَانِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبُ

_________

(١) حديث: " تنكح المرأة لأربع. . . " أخرجه البخاري فتح الباري (٩ / ١٣٢) ومسلم (٢ / ١٠٨٦) من حديث أبي هريرة.

(٢) حديث: " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " أخرجه الترمذي (٣ / ٣٨٨) وقال: حديث حسن.

(٣) حديث: " تزوجوا الودود الولود. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٥٨) من حديث أنس، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.

(٤) حديث: " إذا جاءكم من ترضون دينه. . . ". أخرجه الترمذي (٣ / ٣٨٦) من حديث أبي حاتم المزني وقال حديث حسن غريب.

ذَلِكَ انْصِرَافَ الْقَلْبِ وَتَغَيُّرَهُ، فَيُبْدَأُ بِنُصْحِ الزَّوْجَيْنِ وَإِرْشَادِهِمَا إِلَى الصَّبْرِ وَالاِحْتِمَال، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ التَّقْصِيرُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَال تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (١) .

إِلاَّ أَنَّ مِثْل هَذَا الصَّبْرِ قَدْ لاَ يَتَيَسَّرُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعَانِهِ، فَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الشِّقَاقِ فَوْقَ الاِحْتِمَال، أَوْ كَانَا فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ لاَ تُسَاعِدُهُمَا عَلَى الصَّبْرِ، وَفِي هَذِهِ الْحَال: إِمَّا أَنْ يَأْمُرَ الشَّرْعُ بِالإِْبْقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الشِّقَاقِ الَّذِي قَدْ يَتَضَاعَفُ وَيُنْتَجُ عَنْهُ فِتْنَةٌ، أَوْ جَرِيمَةٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الأَْقَل تَفْوِيتُ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ النِّكَاحُ، وَهِيَ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ وَالنَّسْل الصَّالِحُ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنَ بِالطَّلاَقِ وَالْفِرَاقِ، وَهُوَ مَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ التَّشْرِيعُ الإِْسْلاَمِيُّ، وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الطَّلاَقَ قَدْ يَتَمَحَّضُ طَرِيقًا لإِنْهَاءِ الشِّقَاقِ وَالْخِلاَفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لِيَسْتَأْنِفَ الزَّوْجَانِ بَعْدَهُ حَيَاتَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُرْتَبِطَيْنِ بِرَوَابِطَ زَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، حَيْثُ يَجِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَنْ يَأْلَفُهُ وَيَحْتَمِلُهُ، قَال تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ

_________

(١) آية ١٩ من سورة النساء.

اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾ (١)

وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: بِوُجُوبِ الطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ، وَبِنَدْبِهِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى - كَمَا تَقَدَّمَ - عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ تَقْدِيمًا لِلضَّرَرِ الأَْخَفِّ عَلَى الضَّرَرِ الأَْشَدِّ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ (٢) ". وَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْقَائِلَةُ: " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ (٣) " وَيُسْتَأْنَسُ فِي ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَوْجَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِْسْلاَمِ، قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: اقْبَل الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً (٤) .

مَنْ لَهُ حَقُّ الطَّلاَقِ:

١١ - الطَّلاَقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرْقِ وَهُوَ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُل يَمْلِكُ مُفَارَقَةَ زَوْجَتِهِ إِذَا وَجَدَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِعِبَارَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَمْلِكُ الزَّوْجَةُ

_________

(١) الآية ١٣٠ من سورة النساء.

(٢) مادة ٢٩ من مجلة الأحكام العدلية.

(٣) المادة ٢٧ من مجلة الأحكام العدلية.

(٤) حديث: " أتردين عليه حديقته. . . ". أخرجه البخاري فتح الباري (٩ / ٣٩٥) .

طَلَبَ إِنْهَاءِ عَلاَقَتِهَا الزَّوْجِيَّةِ إِذَا وُجِدَ مَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ، كَإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، وَغَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا تَوْسِعَةً وَتَضْيِيقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهَا، وَإِنَّمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إِلاَّ أَنْ يُفَوِّضَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ، فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَال تَمْلِكُهُ بِقَوْلِهَا أَيْضًا.

فَإِذَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْفِرَاقِ، جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، فَإِنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا قَامَ مِنَ الأَْسْبَابِ مَا يَدْعُوهُ لِذَلِكَ، حِمَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي رِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - أَوْ إِسْلاَمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْمَجُوسِيَّيْنِ وَامْتِنَاعِ الآْخَرِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. . إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لاَ يُسَمَّى طَلاَقًا سِوَى الأَْوَّل الَّذِي يَكُونُ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ الْخَاصَّةِ وَعِبَارَتِهِ (١) . وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ هَذَا حَقُّ الزَّوْجِ خَاصَّةً قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (٢) . ثُمَّ إِنَّ الرَّجُل الْمُطَلِّقَ لاَ يُسْأَل عَنْ سَبَبِ

_________

(&# x٦٦١ ;) ابن عابدين ٣ / ٢٤٢.

(٢) حديث: " إنما الطلاق لمن أخذ الساق ". أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٧٢) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (١ / ٣٥٨) .

الطَّلاَقِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:

١ - حِفْظُ أَسْرَارِ الأُْسْرَةِ.

٢ - حِفْظُ كَرَامَةِ الزَّوْجَةِ وَسُمْعَتِهَا.

٣ - الْعَجْزُ عَنْ إِثْبَاتِ الْكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الأَْسْبَابِ؛ لأَِنَّ غَالِبَ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَكُونُ خَفِيَّةً يَصْعُبُ إِثْبَاتُهَا، فَإِذَا كَلَّفْنَاهُ بِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ كَلَّفْنَاهُ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ يُحْرِجُهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (١) .

٤ - ثُمَّ إِنَّ فِي إِقْدَامِ الزَّوْجِ عَلَى الطَّلاَقِ وَتَحَمُّلِهِ الأَْعْبَاءَ الْمَالِيَّةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهِ، مِنْ مَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، وَنَفَقَةٍ وَمُتْعَةٍ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِوُجُوبِهَا - وَأُجْرَةِ حَضَانَةٍ لِلأَْوْلاَدِ. . لَقَرِينَةٌ كَافِيَةٌ عَلَى قِيَامِ أَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّلاَقِ.

٥ - وَلِكَوْنِ الطَّلاَقِ مُبَاحًا أَصْلًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِبَاحَةً مُطْلَقَةً عَنْ أَيِّ شَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ.

مَحَل الطَّلاَقِ:

١٢ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل الطَّلاَقِ الزَّوْجَةُ فِي زَوْجِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، حَصَل فِيهَا

_________

(١) الآية ٧٨ من سورة الحج.

دُخُولٌ أَمْ لاَ، فَلَوْ كَانَ الزَّوَاجُ بَاطِلًا أَوْ فَاسِدًا، فَطَلَّقَهَا، لَمْ تَطْلُقْ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزَّوَاجِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً (١) . وَهَل يُعَدُّ لَفْظُ الطَّلاَقِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ مُتَارَكَةً؟ وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، لَكِنْ لاَ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ طَلاَقًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: طَلَّقَ الْمَنْكُوحَةَ فَاسِدًا ثَلاَثًا، لَهُ تَزَوُّجُهَا بِلاَ مُحَلِّلٍ. . لِكَوْنِ الطَّلاَقِ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي الْفَاسِدِ، وَلِذَا كَانَ غَيْرَ مُنْقِصٍ لِلْعَدَدِ، بَل مُتَارَكَةً (٢) . وَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ بَعْدَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ، لاِنْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ أَصْلًا. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، حَتَّى لَوْ قَال الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُول بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال لَهَا فِي عِدَّتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَانِيَةً، كَانَتَا طَلْقَتَيْنِ، مَا لَمْ يُرِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ أَرَادَ تَأْكِيدَ الأُْولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ، مَا لَمْ تَكُنْ قَرَائِنُ الْحَال تَمْنَعُ صِحَّةَ إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ الرَّجْعِيَّ لاَ يُنْهِي الْعَلاَقَةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، بِدَلاَلَةِ جَوَازِ رُجُوعِهِ إِلَيْهَا فِي

_________

(١) ابن عابدين ٣ / ١٣٤، والشرح ٢ / ٣٧٠.

(٢) ابن عابدين ٣ / ١٣٤.

الْعِدَّةِ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل دُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ (١) . أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا وَالْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْبَيْنُونَةُ صُغْرَى أَمْ كُبْرَى، وَكَذَلِكَ الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا، وَذَلِكَ لاِنْقِضَاءِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْفَسْخِ (٢) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَانَةَ بَيْنُونَةً صُغْرَى فِي عِدَّتِهَا زَوْجَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِدَلاَلَةِ جَوَازِ عَوْدِهَا إِلَى زَوْجِهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ زَوَاجُهَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهَا مَحَلٌّ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُول بِهَا بَائِنًا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا أُخْرَى فِي عِدَّتِهَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، هَذَا مَا لَمْ يَقْصِدْ تَأْكِيدَ الأُْولَى، فَإِنْ قَصَدَ تَأْكِيدَ الأُْولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ.

وَأَمَّا الْمَفْسُوخُ زَوَاجُهَا فَلَمْ يَرَ الْحَنَفِيَّةُ وُقُوعَ الطَّلاَقِ فِي عِدَّتِهَا إِذَا كَانَ سَبَبُ

_________

(١) ابن عابدين ٣ / ٢٣٠، والدسوقي ٢ / ٣٧٨، ومغني المحتاج ٣ / ٢٩٣، والإنصاف ٩ / ١٥٢ والمغني ٧ / ٢٩٢، وكشاف القناع ٥ / ٤٢٨.

(٢) مغني المحتاج ٣ / ٢٩٢ - ٢٩٧، والمغني ٧ / ٢٦١ - ٢٦٢، والشرح الكبير ٢ / ٣٥٦.

الْفَسْخِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْحُرْمَةُ غَيْرَ مُؤَبَّدَةٍ كَانَتْ مَحَلًّا لِلطَّلاَقِ فِي أَحْوَالٍ، وَغَيْرَ مَحَلٍّ لَهُ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ فَقَال: وَمَحَلُّهُ الْمَنْكُوحَةُ، أَيْ وَلَوْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ غَيْرِ ثَلاَثٍ فِي حُرَّةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي أَمَةٍ، أَوْ عَنْ فَسْخٍ بِتَفْرِيقٍ لإِبَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الإِْسْلاَمِ أَوْ بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا. . بِخِلاَفِ عِدَّةِ الْفَسْخِ بِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ كَتَقْبِيل ابْنِ الزَّوْجِ، أَوْ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ عِتْقٍ، وَبُلُوغٍ، وَعَدَمِ كَفَاءَةٍ، وَنُقْصَانِ مَهْرٍ، وَسَبْيِ أَحَدِهِمَا، وَمُهَاجَرَتِهِ، فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ فِيهَا كَمَا حَرَّرَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْفَتْحِ (١) .

رُكْنُ الطَّلاَقِ:

١٣ - رُكْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ. أَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهِ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ أَطْرَافَ التَّصَرُّفِ. وَالطَّلاَقُ بِالاِتِّفَاقِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، فَرُكْنُ الطَّلاَقِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: الصِّيغَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنْهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لِلطَّلاَقِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، هِيَ: أَهْلٌ، وَقَصْدٌ، وَمَحَلٌّ، وَلَفْظٌ.

_________

(١) ابن عابدين ٣ / ٢٣٠، ٣١٢، ٣١٤.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَرْكَانٌ خَمْسَةٌ: مُطَلِّقٌ، وَصِيغَةٌ، وَمَحَلٌّ، وَوِلاَيَةٌ، وَقَصْدٌ. وَالأَْصْل فِي الصِّيغَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الطَّلاَقِ الْكَلاَمُ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ الْكِتَابَةُ أَوِ الإِْشَارَةُ، وَلاَ يَنْعَقِدُ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ نَوَى الطَّلاَقَ دُونَ لَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ لَمْ يَكُنْ مُطَلِّقًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِحَلْقِ شَعْرِهَا بِقَصْدِ الطَّلاَقِ، لاَ يَكُونُ مُطَلِّقًا أَيْضًا (١) .

شُرُوطُ الطَّلاَقِ:

١٤ - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّلاَقِ لَدَى الْفُقَهَاءِ شُرُوطٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى أَطْرَافِ الطَّلاَقِ الثَّلاَثَةِ، فَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلِّقِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْضُهَا بِالصِّيغَةِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُطَلِّقِ:

يُشْتَرَطُ فِي الْمُطَلِّقِ لِيَقَعَ طَلاَقُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ صَحِيحًا شُرُوطٌ، هِيَ:

الشَّرْطُ الأَْوَّل - أَنْ يَكُونَ زَوْجًا:

١٥ - وَالزَّوْجُ: هُوَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ عَقْدُ زَوَاجٍ صَحِيحٍ.

_________

(١) ابن عابدين ٣ / ٢٣٠، والدسوقي ٢ / ٣٦٥، ومغني المحتاج ٣ / ٢٧٩.

الشَّرْطُ الثَّانِي - الْبُلُوغُ:

١٦ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ وُقُوعِ طَلاَقِ الصَّغِيرِ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، مُرَاهِقًا أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ، أُجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَلِيِّ أَمْ لاَ، عَلَى سَوَاءٍ، ذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلاَ يَمْلِكُهُ الصَّغِيرُ وَلاَ يَمْلِكُهُ وَلِيُّهُ (١)، وَلِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل (٢) . وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِل الطَّلاَقَ، فَقَالُوا: إِنَّ طَلاَقَهُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ. أَمَّا مَنْ لاَ يَعْقِل فَوَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي أَنَّهُ لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ. قَال فِي الْمُغْنِي: وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ طَلاَقَ لَهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَعْقِل الطَّلاَقَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ بِهِ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ طَلاَقَهُ يَقَعُ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ. . وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجُوزُ طَلاَقُهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَهُوَ قَوْل

_________

(١) الدر المختار ٣ / ٢٣٠، ومغني المحتاج ٣ / ٢٧٩، والشرح الكبير ٢ / ٣٦٥.

(٢) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أحمد (٦ / ١٠٠ - ١٠١) والحاكم (٢ / ٥٩) من حديث عائشة، وصححه ووافقه الذهبي.