الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٣
وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَال: يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي (١) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْصِ مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَهُ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ. قَال الأَْبِيُّ: وَحَمَل الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ رَقْصِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْوَثْبِ بِسِلاَحِهِمْ، وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ، لِيُوَافِقَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ بِحِرَابِهِمْ (٢) .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَصْحَبِ الرَّقْصَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الرَّقْصِ ذِكْرًا أَوْ عِبَادَةً، بِدْعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَلاَ رَسُولُهُ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ، أَوِ السَّلَفِ (٣) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ لاَ يَحْرُمُ
_________
(١) حديث عائشة: " كان رسول الله ﷺ جالسا فسمعنا لغطا ". أخرجه الترمذي (٥ / ٦٢١ - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح غريب ".
(٢) حديث أبي هريرة: " يلعبون عند رسول الله بحرابهم ". أخرجه مسلم (٢ / ٦١٠ - ط الحلبي) .
(٣) المبدع ١٠ / ٢٢٦، فتاوى ابن تيمية ٥ / ٦٤، ٨٣، ١١ / ٥٩٩، ٦٠٤، ٦٠٥، بلغة السالك ٢ / ١٣٨، حاشية ابن عابدين ٣ / ٣٠٧، ٥ / ٢٥٣، نهاية المحتاج ٨ / ٢٨٢، حواشي تحفة المحتاج ١٠ / ٢٢١، روض الطالب وشرحه للأنصاري ٤ / ٣٤٦، مغني المحتاج ٤ / ٤٣٠، وكشاف القناع ٥ / ١٨٤، وشرح الأبي على مسلم ٣ / ٤٣.
وَلاَ يُكْرَهُ بَل يُبَاحُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ حَبَشَةُ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ ﷺ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ (١) . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِقْرَارِهِ ﷺ لِفِعْلِهِمْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الرَّقْصَ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَاعْوِجَاجٍ.
وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ إِذَا كَثُرَ بِحَيْثُ أَسْقَطَ الْمُرُوءَةَ حَرُمَ، وَالأَْوْجَهُ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُهُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْبَاحَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْل الْمُخَنَّثِينَ وَإِلاَّ حَرُمَ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، أَمَّا مَنْ يَفْعَلُهُ خِلْقَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلاَ يَأْثَمُ بِهِ.
قَال فِي الرَّوْضِ: وَبِالتَّكَسُّرِ حَرَامٌ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ (٢) .
شَهَادَةُ الرَّقَّاصِ:
٥ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الرَّقَّاصِ لأَِنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِسْقَاطِ الْمُرُوءَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَالإِْكْثَارُ مِنَ
_________
(١) حديث عائشة: " جاء حبشة يزفنون ". أخرجه مسلم (٢ / ٦٠٩ - ٦١٠ - ط الحلبي) .
(٢) نهاية المحتاج ٨ / ٢٨٢ - ٢٨٣، الجمل ٥ / ٣٨١، حواشي التحفة ١٠ / ٢٢١.
الرَّقْصِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ الرَّقْصُ، أَمَّا مَنْ لاَ يَلِيقُ بِهِ فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالإِْكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الأَْمْرُ بِاخْتِلاَفِ عَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لاَ يُسْتَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ يُفِيدُ اعْتِبَارَ الْمُدَاوَمَةِ وَالإِْكْثَارِ كَذَلِكَ، حَيْثُ عَبَّرُوا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. قَال فِي الْبِنَايَةِ: وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالْمُشَعْوِذِ وَالرَّقَّاصِ وَالسُّخَرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ (١) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ:
٦ - الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ يَتْبَعُ حُكْمَ الرَّقْصِ نَفْسِهِ، فَحَيْثُ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا كَانَ حُكْمُ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّقْصَ حَيْثُ كَانَ حَرَامًا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلاَ يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِلرَّقَّاصِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَحَيْثُ كَانَ الرَّقْصُ حَرَامًا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (٢) . وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: " إِجَارَة ".
_________
(١) فتح القدير مع شرح العناية ٦ / ٣٩، البناية ٧ / ١٨٠، الشرح الصغير ٤ / ٢٤٢، نهاية المحتاج ٨ / ٢٨٢ - ٢٨٤، روضة الطالبين ١١ / ٢٣٠، كشاف القناع ٦ / ٤٢٣، الفروع ٦ / ٥٧٣، والسخرة: من يسخر منه.
(٢) الشرح الصغير ٤ / ١٠.
رِقّ
(١)
التَّعْرِيفُ:
١ - الرِّقُّ لُغَةً: مَصْدَرُ رَقَّ الْعَبْدُ يَرِقُّ، ضِدُّ عَتَقَ، يُقَال: اسْتَرَقَّ فُلاَنٌ مَمْلُوكَهُ وَأَرَقَّهُ، نَقِيضُ أَعْتَقَهُ. وَالرَّقِيقُ: الْمَمْلُوكُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُقَال لِلأُْنْثَى أَيْضًا رَقِيقَةٌ، وَالْجَمْعُ رَقِيقٌ وَأَرِقَّاءُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَبِيدُ رَقِيقًا؛ لأَِنَّهُمْ يَرِقُّونَ لِمَالِكِهِمْ، وَيَذِلُّونَ وَيَخْضَعُونَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَهِيَ ضِدُّ الْغِلَظِ وَالثَّخَانَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، يُقَال: ثَوْبٌ رَقِيقٌ، وَثِيَابٌ رِقَاقٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي
_________
(١) كان الرق متعارفا عليه قبل الإسلام بقرون متطاولة، وكانت الحياة الاقتصادية قائمة في الغالب على أكتاف الرقيق، والحياة الاجتماعية كذلك، كان الرقيق يشكل جزءًا كبيرًا من عناصرها. وقد جاء الإسلام الحنيف فحث على تحرير الأرقاء، وكان من أوائل ما نزل من القرآن
الْمَعْنَوِيَّاتِ فَقِيل: فُلاَنٌ رَقِيقُ الدِّينِ، أَوْ رَقِيقُ الْقَلْبِ (١) .
وَالرِّقُّ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ لُغَةً، فَهُوَ كَوْنُ الإِْنْسَانِ مَمْلُوكًا لإِنْسَانٍ آخَرَ.
وَعَرَّفَهُ بَعْضُ أَهْل الْفَرَائِضِ وَالْفِقْهِ بِأَنَّهُ " عَجْزٌ
_________
(١) لسان العرب، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي ٣ / ١٦٧ القاهرة، عيسى الحلبي.
حُكْمِيٌّ يَقُومُ بِالإِْنْسَانِ سَبَبُهُ الْكُفْرُ (١) " أَوْ أَنَّهُ " عَجْزٌ شَرْعِيٌّ مَانِعٌ لِلْوِلاَيَاتِ مِنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا (٢) ".
وَلِلرَّقِيقِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ وَحَالِهِ، كَالْقِنِّ: وَهُوَ مَنْ لاَ عِتْقَ فِيهِ أَصْلًا، وَيُقَابِلُهُ الْمُبَعَّضُ، وَهُوَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ وَسَائِرُهُ رَقِيقٌ، وَمَنْ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، وَهُوَ مَنِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْعِتْقِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعْتَقُ عِنْدَ أَجَلٍ، وَأُمِّ الْوَلَدِ.
أَسْبَابُ تَمَلُّكِ الرَّقِيقِ:
٢ - يَدْخُل الرَّقِيقُ فِي مِلْكِ الإِْنْسَانِ بِوَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلًا: اسْتِرْقَاقُ الأَْسْرَى وَالسَّبْيِ مِنَ الأَْعْدَاءِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ اسْتَرَقَّ النَّبِيُّ ﷺ نِسَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ (٣) . وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِرْقَاق) .
وَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ اسْتِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الاِسْتِرْقَاقِ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً لاِسْتِنْكَافِ الْكَافِرِ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى،
_________
(١) العذب الفائض ١ / ٢٣ القاهرة، مصطفى الحلبي ١٣٧٢هـ.
(٢) شرح مسلم الثبوت ١ / ١٧١ نشر بولاق، روضة الطالبين للنووي ٦ / ١٦٢، دمشق، المكتب الإسلامي.
(٣) حديث: " استرق النبي ﷺ نساء بني قريظة وذراريهم ". أخرجه البخاري (الفتح ٧ / ٤١٢ - ط السلفية) من حديث عائشة.
فَجَازَاهُ بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ عَبِيدِهِ (١) .
ثَانِيًا: وَلَدُ الأَْمَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الرِّقِّ، سَوَاءٌ، أَكَانَ أَبُوهُ حُرًّا أَمْ عَبْدًا، وَهُوَ رَقِيقٌ لِمَالِكِ أُمِّهِ، لأَِنَّ وَلَدَهَا مِنْ نَمَائِهَا، وَنَمَاؤُهَا لِمَالِكِهَا، وَلِلإِْجْمَاعِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ وَهُوَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَطَ مُتَزَوِّجُ الأَْمَةِ أَنْ يَكُونَ أَوْلاَدُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (٢) .
ثَالِثًا: الشِّرَاءُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِلْكًا صَحِيحًا مُعْتَرَفًا بِهِ شَرْعًا، وَكَذَا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمِيرَاثُ وَغَيْرُهَا مِنْ صُوَرِ انْتِقَال الأَْمْوَال مِنْ مَالِكٍ إِلَى آخَرَ.
وَلَوْ كَانَ مَنْ بَاعَ الرَّقِيقَ، أَوْ وَهَبَهُ كَافِرًا ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَيَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ لِلنَّبِيِّ ﷺ جَارِيَتَيْنِ، فَتَسَرَّى بِإِحْدَاهُمَا، وَوَهَبَ الأُْخْرَى لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ﵁ (٣) .
الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ:
٣ - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ، وَقَدْ
_________
(١) العناية بهامش فتح القدير ٤ / ٣١٦، القاهرة، مطبعة بولاق ١٣١٨هـ.
(٢) كشاف القناع ٥ / ٩٩ الرياض، مكتبة النصر الحديثة، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين ٣ / ١٢، ١٣.
(٣) حديث: " إهداء المقوقس جاريتين للنبي ﷺ ". ذكره ابن سعد في الطبقات (٨ / ٢١٤ - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلا.
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ إِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُعْرَفْ نَسَبُهُ يَكُونُ حُرًّا، وَإِنِ احْتُمِل أَنَّهُ رَقِيقٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ الأَْصْل فِي الآْدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا، وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ الأَْصْل (١) .
وَالْحُرِّيَّةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِبْطَالِهِ إِلاَّ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال هَذَا الْحَقِّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ وَلَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ (٢) .
وَمَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الآْدَمِيَّةِ فِي الرَّقِيقِ لاَ يَبْطُل بِرِقِّهِ، بَل يَبْقَى عَلَى أَصْل الْحُرِّيَّةِ، كَالطَّلاَقِ، فَإِنَّ حَقَّ تَطْلِيقِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ هُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَيْهِ (٣) .
إِلْغَاءُ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ لأَِنْوَاعٍ مِنْ الاِسْتِرْقَاقِ:
٤ - حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ اسْتِرْقَاقَ الْحُرِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَل ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ
_________
(١) المغني ٥ / ٦٧٩، ٦٨٠، القاهرة، دار المنار، ١٣٦٧هـ، ط ثالثة، وكشاف القناع ٦ / ٣٩٢، وفتح القدير ٦ / ٢٥٠.
(٢) فتح القدير ٦ / ٢٣٧.
(٣) العناية وفتح القدير ٣ / ٤٤.
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ (١) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ثَلاَثَةٌ لاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُمْ صَلاَةً. . . وَذَكَرَ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا (٢) قَال الْخَطَّابِيُّ: اعْتِبَادُ الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ، أَوْ يَجْحَدَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا بَعْدَ الْعِتْقِ. ا. هـ (٣) وَكَذَلِكَ الاِسْتِرْقَاقُ بِخَطْفِ الْحُرِّ، أَوْ سَرِقَتِهِ، أَوْ إِكْرَاهِهِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى جَعْلِهِ فِي حَبَائِل الرِّقِّ، بِأَيِّ وَسِيلَةٍ، كُل ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، بَل يَبْقَى الْمَخْطُوفُ أَوِ الْمَسْرُوقُ حُرًّا إِنْ كَانَ مَعْصُومًا بِإِسْلاَمٍ أَوْ عَهْدٍ، وَمَنِ اشْتَرَى مِنْ هَؤُلاَءِ وَاِتَّخَذَ مَا اشْتَرَاهُ رَقِيقًا أَوْ بَاعَهُ، حَرُمَ عَلَيْهِ مَا فَعَل، وَدَخَل فِي الَّذِينَ قَال رَسُول اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، فَإِنْ وَطِئَ شَيْئًا مِنْ الْجَوَارِي الَّتِي (اسْتُمْلِكَتْ) بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ زِنًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا، مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْوَاطِئِ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ إِنْ زَال
_________
(١) حديث: " قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٤١٧ - ط السلفية من حديث أبي هريرة.
(٢) حديث: " ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ". أخرجه أبو داود (١ / ٣٩٧ - تحقيق عزت عبيد دعاس)، ونقل المناوي في فيض القدير (١ / ٣٢٩ - ط المكتبة التجارية) عن النووي والعراقي أنهما ضعفاه.
(٣) فتح الباري ٤ / ٤١٨ القاهرة، المطبعة السلفية ١٣٧١هـ.
الإِْكْرَاهُ وَرَضِيَتْ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ الَّذِي يُولَدُ لَهُمَا وَلَدُ زِنًا، لاَ يَلْتَحِقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ (١) .
إِثْبَاتُ الرِّقِّ:
٥ - تَثْبُتُ دَعْوَى الرِّقِّ عَلَى مَجْهُول النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَلاَ اسْتِحْلاَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَلاَ يَكْفِي الشَّاهِدَ رُؤْيَتُهُ يَسْتَخْدِمُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةَ لِيَشْهَدَ بِرِقِّهِمَا، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا، وَلاَ تَكْفِي الْيَدُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ صَغِيرًا لاَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيل عِنْدَهُمْ: لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا عَلَى الْكَبِيرِ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ (٢) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَال الْبَالِغُ: أَنَا حُرُّ الأَْصْل، فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعِي اسْتَخْدَمَهُ قَبْل الإِْنْكَارِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ الْبَيْعُ مِرَارًا وَتَدَاوَلَتْهُ الأَْيْدِي أَمْ لاَ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِذَا لَمْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ بِرِقٍّ فَهُوَ حُرٌّ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ. وَإِنْ أَقَرَّ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ بِرِقِّهِ لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ قُبِل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ إِقْرَارَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَل.
وَقَال أَيْضًا: لَوِ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
_________
(١) تكملة فتح القدير ٧ / ٣٩٢، فتح الباري ٤ / ٤١٨، الأشباه للسيوطي ص ١١١.
(٢) فتح القدير والعناية ٦ / ١٦٢.