الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٢
وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ ﷺ وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ (١)، وَقَوْلِهِ ﷺ: لاَ تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ (٢)، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُل مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلأَِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْل وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) أَوْ؛ لأَِنَّ التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا، وَجَعْل الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلأَِنَّ التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ ﷺ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ أَوْ صِيَانَةً لأَِمْوَال النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ الْكَيْل وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى (٣) .
٢٣ - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَقِيل: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيل: مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.
وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْل فِي الطَّعَامِ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْل الأَْكْثَرِ وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ،
_________
(١) الحديث تقدم تخريجه ف / ٢٠.
(٢) حديث: " لا تبيعوا الصاع بالصاعين. . . . " شطر من حديث عبد الله بن عمر المتقدم تخريجه ف / ٢٠.
(٣) المبسوط ١٢ / ١١٣، والاختيار ٢ / ٣٠.
وَالاِقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ بِنْيَةِ الآْدَمِيِّ بِهِ - أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا - بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ إِصْلاَحُ الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِل، وَمَعْنَى الاِدِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الأَْجَل الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلاَ حَدَّ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَل هُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الاِدِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاِدِّخَارِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، فَتَدْخُل الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (١) .
٢٤ - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأَْثْمَانِ غَالِبًا - كَمَا نَقَل الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لاَ تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّ كُل شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لاَ يَجُوزُ
_________
(١) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٣ / ٤١ - ٤٢، وحاشية العدوي على كفاية الطالب ٢ / ١٠٠ - ١٠١
إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ إِسْلاَمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال دَل عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لِمَعْنًى لاَ يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ.
وَذُكِرَ لَفْظُ " غَالِبًا " فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلاِحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُل فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الأَْوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُول: الْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا، قَال: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الأَْشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لأَِنَّ الأَْوَانِيَ وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لاَ لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْغَزْل وَغَيْرِهَا. . لاَ رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُؤَجَّلًا.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ،
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيل مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ (١) فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الاِشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي (٢) . وَلأَِنَّ الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي كُل مَا يُطْعَمُ.
وَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ فِي مَطْعُومٍ يُكَال أَوْ يُوزَنُ.
وَالْجَدِيدُ هُوَ الأَْظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ الآْدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلاَثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ
_________
(١) حديث: " الطعام بالطعام مثلًا بمثل. . . . " أخرجه مسلم (٣ / ١٢١٤ - ط الحلبي) من حديث معمر بن عبد الله.
(٢)
) في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) سورة المائدة / ٣٨، وفي قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا. . . .) سورة النور / ٢٠.
وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الإِْصْلاَحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالأَْغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالأَْدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ (١) .
٢٥ - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَفِي الأَْجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلاَتِ جِنْسٍ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لاَ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْل، وَلاَ يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ الأَْرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا كَانَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَكِيلًا وَلاَ مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَل مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ
_________
(١) المهذب ١ / ٢٧٠، والمجموع ٩ / ٣٩٣ - ٣٩٧، مغني المحتاج ٢ / ٢٢ - ٢٥، أسنى المطالب ٢ / ٢٢.
بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَال: لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لأَِنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لاَ يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُول مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُول مِنَ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلأَِنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الأَْبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الأَْمْوَال، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيل بِهِمَا؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الأَْثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لأَِنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْل يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلأَِنَّ الْكَيْل وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي
تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لاَ مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.
وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيل كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا بِالآْخَرِ، فَنَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ (١) يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنِ التَّفَاضُل فِيهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَل قُوتًا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالإِْهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُل فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ (٢) .
مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:
٢٦ - إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ الأَْمْوَال، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُل وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ
_________
(١) الحديث تقدم تخريجه في ف / ٢٤.
(٢) المغني ٤ / ٥ - ٩، كشاف القناع ٣ / ٢٥٢.
الصَّامِتِ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (١) .
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.
وَفِيمَا يَلِي مُجْمَل أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
٢٧ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْل وَالنَّسَاءُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلاَ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا - أَيِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ - حَل الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَل الْفَضْل وَحَرُمَ النَّسَاءُ. قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ ﵇ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ (٢) وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ
_________
(١) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (٣ / ١٢١١ - ط الحلبي) .
(٢) حديث: " إذا اختلف الجنسان " وفي رواية: " النوعان " أورده الزيلعي في نصب الراية (٤ / ٤ - ط المجلس العلمي)، وقال: " غريب بهذا اللفظ " ثم أحال إلى حديث عبادة بن الصامت المتقدم.
كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّل خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّل وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْل مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيل رِبًا؛ لأَِنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ وَزْنِيٍّ، وَيَحِل بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلًا لاَ مُتَفَاضِلًا وَبِلاَ مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.
وَجَيِّدُ مَال الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ ﷺ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (١)؛ وَلأَِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِل لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَال الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلاَ يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ
_________
(١) حديث: جيدها ورديئها سواء. أورده الزيلعي في نصب الراية (٤ / ٣٧ - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد المتقدم تخريجه ف / ١٦.
بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ (١) وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلاَفِ جِنْسِهِ.
وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ؛ لأَِنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْل فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّل الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ ﷺ بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ بِغَزْل قُطْنٍ فِي الأَْصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ، وَلاَ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.
وَلاَ رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ (٢) .
٢٨ - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلاَ
_________
(١) القلب بضم القاف وسكون اللام: ما يلبس في الذراع من فضة، فإن كان من ذهب فهو السوار. رد المحتار ٤ / ١٨٣
(٢) الاختيار ٢ / ٣١ وما بعدها، رد المحتار ٤ / ١٧٨، ١٨١ وما بعدها.