الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢١
وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ، وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا نَقْل يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ ﵉ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ؛ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا.
وَأَمَّا قَبْل دَفْنِهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِنَقْلِهِ مُطْلَقًا، وَقِيل إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ إِلاَّ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ، فَحُمِل إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَتَتْ قَبْرَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: " وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلاَّ حَيْثُ مِتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ (١) ".
وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ، وَأَسْلَمُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ.
قَال الشَّافِعِيُّ ﵀: لاَ أُحِبُّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
_________
(١) حديث: " أثر عائشة في إتيانها قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر " أخرجه الترمذي (٣ / ٢٦٢ - ط الحلبي)، وعبد الرزاق في " المصنف ". (٣ / ٥١٧، ٥١٨ - ط المجلس العلمي) .
بِقُرْبِ مَكَّةَ، أَوِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَيُخْتَارُ أَنْ يُنْقَل إِلَيْهَا لِفَضْل الدَّفْنِ فِيهَا، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ نَقْلُهُ، وَقَال صَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " وَآخَرُونَ: يَحْرُمُ نَقْلُهُ (١) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطٍ هِيَ:
- أَنْ لاَ يَنْفَجِرَ حَال نَقْلِهِ
- أَنْ لاَ تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ
- وَأَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ: كَأَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْبَحْرُ، أَوْ تُرْجَى بَرَكَةُ الْمَوْضِعِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ، أَوْ لِيُدْفَنَ بَيْنَ أَهْلِهِ، أَوْ لأَِجْل قُرْبِ زِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ دَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلاَثَةِ كَانَ النَّقْل حَرَامًا (٢) .
وَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِل. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ (٣) . وَأَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ
_________
(١) ابن عابدين ١ / ٦٠٢، وروضة الطالبين ٢ / ١٤٣، والمغني ٢ / ٥٠٩.
(٢) شرح الزرقاني ٢ / ١٠٢ ط دار الفكر، وجواهر الإكليل ١ / ١١١، وحاشية الدسوقي ١ / ٤٢١
(٣) حديث: " أمر بقتلى أُحُد أن يردوا إلى مصارعهم. . . " أخرجه النسائي (٤ / ٧٩ - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجه الترمذي (٤ / ٣١٥ - ط الحلبي) بلفظ مقارب، وقال: " حديث حسن صحيح ".
الْحَدِيدُ وَالسِّلاَحُ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ خُفَّاهُ، وَقَلَنْسُوَتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ (١) . وَدَفْنُ الشَّهِيدِ بِثِيَابِهِ حَتْمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا (٢) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيد) (وَتَكْفِين) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَافِرَ إِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ، وَشَقَّ نَقْلُهُ مِنْهُ لِتَقَطُّعِهِ، أَوْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُفِنَ ثَمَّ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلاَ يَجِبُ دَفْنُهُ، وَفِي وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ دُفِنَ فَيُتْرَكُ.
وَأَمَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ فَيُنْقَل مِنْهُ وَلَوْ دُفِنَ؛ لأَِنَّ الْمَحَل غَيْرُ قَابِلٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ. وَلأَِنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا إِلاَّ إِذَا تَهَرَّى
_________
(١) حديث ابن عباس: " أن رسول الله أمر بقتلى أحد أن ينزع. . . . . " أخرجه ابن ماجه (١ / ٤٨٥ - ط الحلبي): وضعفه ابن حجر في التلخيص (٢ / ١١٨ - ط شركة الطباعة الفنية) .
(٢) البدائع ١ / ٣٤٤، وابن عابدين ١ / ٦١٠، وجواهر الإكليل ١ / ١١١، والقليوبي ١ / ٣٣٩، وروضة الطالبين ٢ / ١٢٠، ١٣١، والمغني ٢ / ٥٠٩، ٥٣١، ٥٣٢.
وَتَقَطَّعَ بَعْدَ دَفْنِهِ تُرِكَ. وَلَيْسَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لاِخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ (١) .
دَفْنُ الأَْقَارِبِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ:
٥ - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ الأَْقَارِبِ فِي الدَّفْنِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ: أَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (٢) . وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَسْهَل لِزِيَارَتِهِمْ وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الأَْبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ أَمْكَنَ (٣) .
الأَْحَقُّ بِالدَّفْنِ:
٦ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ مَحَارِمُهَا الرِّجَال الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ يَحِل لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ ﷺ حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ﵂، فَقَال: أَلاَ
_________
(١) حاشية الجمل ٥ / ٢١٥، ٢١٦، وأسنى المطالب ٤ / ٢١٤، ٢١٥.
(٢) حديث: " ادفن إليه من مات من أهلي " أخرجه أبو داود (٣ / ٥٤٣ - تحقيق عزت عبيد دعاس) عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن رجل من الصحابة، وحسنه ابن حجر في التلخيص (٢ / ١٣٣ - ط شركة الطباعة الفنية) .
(٣) حاشية الدسوقي ١ / ٤٢١، والقليوبي ١ / ٣٥١، وروضة الطالبين ٢ / ١٤٢، والمغني ٢ / ٥٠٩.
إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا، فَأَرْسَلْنَ: مَنْ كَانَ يَحِل لَهُ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ.
وَلأَِنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَال لأَِهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا. وَلأَِنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِوِلاَيَتِهَا حَال الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ زَوْجُهَا؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنَ النَّسَبِ مِنَ الأَْجَانِبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلاَ بَأْسَ لِلأَْجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ النِّسَاءِ لِلدَّفْنِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ مَاتَتِ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَل فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ (١) . وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ، كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ وَلأَِنَّ تَوَلِّيَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِل فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَل. ثُمَّ يُقَدَّمُ خَصِيٌّ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ أَفْضَل دِينًا وَمَعْرِفَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ؛ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا، الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى كَالرِّجَال.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الزَّوْجَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَنْظُورَهُ أَكْثَرُ (٢) .
_________
(١) حديث: " أمر أبا طلحة بالنزول في قبر ابنته ". أخرجه البخاري (الفتح ٣ / ٢٠٨ - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(٢) البدائع ١ / ٣١٠، وكشاف القناع ٢ / ١٣٢، ١٣٣، وروضة الطالبين ٢ / ١٣٣.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ الرِّجَال، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَحَارِمُهَا مِنْ أَعْلاَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصَالِحُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الأَْجَانِبِ (١) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الأَْوْلَى بِدَفْنِ الرِّجَال أَوْلاَهُمْ بِغُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْزِل الْقَبْرَ إِلاَّ الرِّجَال مَتَى وُجِدُوا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ ﵃، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا تَوَلَّوْا غُسْلَهُ (٢)، وَلأَِنَّ الْمُقَدَّمَ بِغُسْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، ثُمَّ الرِّجَال الأَْجَانِبُ، ثُمَّ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ الأَْجْنَبِيَّاتُ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْنِهِ وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ (٣) .
أَمَّا دَفْنُ الْقَاتِل لِلْمَقْتُول: فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِي دَفْنِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ (٤) .
دَفْنُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ
٧ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
_________
(١) القوانين الفقهية / ٩٤، ٩٥.
(٢) أخرجه أحمد (١ / ٢٥٩ - ط الميمنية) من حديث ابن عباس، وأعله محقق المسند الشيخ أحمد شاكر بضعف أحد رواته (المسند ٤ / ١٠٤ - ط دار المعارف) .
(٣) روضة الطالبين ٢ / ١٣٣، وكشاف القناع ٢ / ١٣٢، ١٣٣، والمغني ٢ / ٥٠٣.
(٤) كشاف القناع ٢ / ٨٩.
أَنْ يَدْفِنَ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ فَيُوَارِيهِ وُجُوبًا.؛ لأَِنَّهُ ﷺ لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَال لِعَلِيٍّ ﵁: اذْهَبْ فَوَارِهِ (١) وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أَوْ لأَِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ. وَلاَ يُسْتَقْبَل بِهِ قِبْلَتَنَا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلاَ قِبْلَتَهُمْ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَلاَ يُقْصَدُ جِهَةٌ مَخْصُوصَةٌ، بَل يَكُونُ دَفْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ لِوَلِيِّهِ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ، إِذْ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَاسْتِقْبَالِهِ قِبْلَتَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (٢) .
كَيْفِيَّةُ الدَّفْنِ:
٨ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا، ثُمَّ يُحْمَل فَيُلْحَدَ، فَيَكُونَ الآْخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ حَال الأَْخْذِ.
_________
(١) حديث: " اذهب فواره " أخرجه أبو داود (٣ / ٥٤٧ - تحقيق عزت عبيد دعاس)، وقال الرافعي: " حديث ثابت مشهور "، كذا في التلخيص لابن حجر (٢ / ١١٤ - ط شركة الطباعة الفنية) .
(٢) ابن عابدين ١ / ٥٩٧، وجواهر الإكليل ١ / ١١٧، ١١٨، وحاشية الدسوقي ١ / ٤٠٣، وأسنى المطالب ١ / ٣١٤، وروضة الطالبين ٢ / ١١٩.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁. وَقَال النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْل الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الأَْوَّل يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ السَّل شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْل الْمَدِينَةِ (١) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى (٢) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّل، بِأَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأَْنْصَارِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ﵃ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ سَلًّا (٣) .
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُنَا خِلاَفٌ فِي الأَْوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الأَْسْهَل عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنَ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ فَلاَ حَرَجَ؛ لأَِنَّ
_________
(١) البدائع ١ / ٣١٨، وابن عابدين ١ / ٦٠٠، والمغني ٢ / ٤٩٦.
(٢) القوانين الفقهية / ٩٤.
(٣) حديث ابن عمر وابن عباس: " أن النبي ﷺ سل من قبل رأسه سلا " حديث ابن عباس أخرجه الشافعي، وعنه البيهقي في سننه (٤ / ٥٤ - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده جهالة. وأما حديث ابن عمر فقد ذكر ابن حجر في التلخيص (٢ / ١٢٨ - ط شركة الطباعة الفنية) أن أبا البركات ابن تيمية عزاه إلى أبي بكر النجاد.
اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ أَسْفَل الْقَبْرِ إِنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الأَْسْهَل غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَال أَحْمَدُ ﵀: كُلٌّ لاَ بَأْسَ بِهِ (١) .
ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقُول وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا أَدْخَل الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ، قَال مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ. وَقَال مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ (٢)
وَمَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاكَ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ سَلَّمْنَاكَ.
وَقَال الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لَيْسَ دُعَاءً لِلْمَيِّتِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدَّل حَالُهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّل أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ.
_________
(١) روضة الطالبين ٢ / ١٣٣، وكشاف القناع ٢ / ١٣١، والمغني ٢ / ٤٩٦، ٤٩٧.
(٢) حديث عبد الله بن عمر: " أن النبي ﷺ كان إذا أدخل الميت. . . " أخرجه الترمذي (٣ / ٣٥٥ ط الحلبي)، وابن ماجه (١ / ٤٩٥) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (١) .
ثُمَّ تُحَل عُقَدُ الْكَفَنِ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الْفُرَجُ بِالْمَدَرِ وَالْقَصَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَيْ لاَ يَنْزِل التُّرَابُ مِنْهَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الآْجُرِّ الْمَطْبُوخِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ رَخْوَةً؛ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل لِلزِّينَةِ، وَلاَ حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إِلَيْهَا، وَلأَِنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ. قَال مَشَايِخُ بُخَارَى: لاَ يُكْرَهُ الآْجُرُّ فِي بِلاَدِنَا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِ الأَْرَاضِي، وَكَذَلِكَ الْخَشَبُ.
وَيُسْتَحَبُّ حَثْيُهُ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ ثَلاَثًا: لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ ثَلاَثًا (٢) . وَيَقُول فِي الْحَثْيَةِ الأُْولَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾، وَفِي الثَّانِيَةِ: ﴿وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾، وَفِي الثَّالِثَةِ: ﴿وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ .
وَقِيل: يَقُول فِي الأُْولَى: اللَّهُمَّ جَافِ الأَْرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِرُوحِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ زَوِّجْهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَلِلْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ.
_________
(١) ابن عابدين ١ / ٦٠٠، والبدائع ١ / ٣١٩، والزرقاني ٢ / ٩٩، وروضة الطالبين ٢ / ١٣٤، والمغني ٢ / ٥٠٠.
(٢) حديث: " أن رسول الله ﷺ صلى على جنازة. . . " نجده من حديث أبي هريرة، وإنما ورد من حديث أبي أمامة بلفظ مقارب، أخرجه أحمد (٥ / ٢٥٤ - ط الميمنية) وضعفه النووي في المجموع (٥ / ٢٩٤ - ط المنيرية) .