الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٠
بِمَنْزِلَةِ الْقَبُول كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ (١) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ، فَالرَّدُّ لاَ يَكُونُ مُجَرَّدَ نَقْضٍ وَانْفِسَاخٍ تَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ صَاحِبِ الْخِيَارِ، بَل هُوَ فَسْخٌ لِصَفْقَةٍ تَمَّتْ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي، وَيُعَلِّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلاَ تَحْتَمِل الاِنْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا. وَبِعِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ: " الْفَسْخُ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ نَظِيرُ الإِْقَالَةِ، وَهِيَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ " (٢) وَلاَ فَرْقَ فِي الرَّدِّ بَيْنَ وُقُوعِهِ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ فَسْخٍ فَلاَ تُفْتَقَرُ صِحَّتُهُ إِلَى الْقَضَاءِ وَلاَ لِلرِّضَا، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ (بِالإِْجْمَاعِ) وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْل الْقَبْضِ فَكَذَا بَعْدَهُ. وَلأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَتَفَاوَتِ الرَّدُّ (٣) .
صِيغَةُ الْفَسْخِ وَإِجْرَاءَاتُهُ:
٣٩ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا ذَكَرْنَا - إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْل الْقَبْضِ يَحْصُل بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَادُ قَوْل
_________
(١) بدائع الصنائع ٥ / ٢٨١، الفتاوى الهندية ٣ / ٦٦، فتح القدير ٥ / ١٦٨.
(٢) المبسوط للسرخسي ١٣ / ١٠٣، وكرر التشبيه بالإقالة في شرح السير الكبير ٢ / ٢٩٤، " الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء يكون بمنزلة الإقالة فيه ".
(٣) المهذب ١ / ٢٨٤، الشرح الكبير على المقنع ٤ / ٨٦، تكملة المجموع للسبكي ١٢ / ١٥٧.
الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ أَوْ فَسَخْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الاِتِّفَاقِ بِأَنْ يَفْسَخَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَيَقْبَل الْعَاقِدُ الآْخَرُ أَوْ يَتَقَاضَيَانِ. قَال الْكَاسَانِيُّ (١): (لأَِنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لاَ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ رِضَا الآْخَرِ. أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَالصَّفْقَةُ لَمْ تَتِمَّ، فَكَانَ مِنَ السَّهْل الرَّدُّ لأَِنَّهُ كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهِ) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْفَسْخُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مَهْمَا كَانَتِ الْكَيْفِيَّةُ: فِي حُضُورِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِرِضَاهُ أَوْ عَدَمِهِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ (٢) وَلَكِنْ نَظَرًا لِذَهَابِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، لاَ التَّرَاخِي، وَأَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ، فَقَدِ احْتِيجَ إِلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الإِْجْرَاءَاتِ دُونَ أَنْ تَخْتَصَّ صُورَةٌ مِنْهَا بِالْوُجُوبِ، بَل يُجْزِئُ عَنْهَا مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ وَهُوَ إِثْبَاتُ مُبَادَرَتِهِ لِلْفَسْخِ.
وَخُلاَصَةُ هَذِهِ الإِْجْرَاءَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمِ وَالْحَاكِمِ بِالْبَلَدِ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَّرَ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ فَسَخَ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صُورَةٌ بَدِيلَةٌ عَنِ الذَّهَابِ
_________
(١) بدائع الصنائع ٥ / ٢٨١.
(٢) تكملة المجموع ١٢ / ١٥٧.
إِلَى الْبَائِعِ أَوِ الْحَاكِمِ، وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْفَسْخِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلتَّسْلِيمِ وَفَصْل الْخُصُومَةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيُّ خِلاَفًا لِمَا تُوهِمُهُ بَعْضُ عِبَارَاتِ الْمُتُونِ (١) .
طَبِيعَةُ الرَّدِّ، وَآثَارُهَا فِي تَعَاقُبِ الْبَيْعِ
٤٠ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبْضِ (أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَهُوَ رَدٌّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَسْخُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقًا (٢) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ فِي حَال تَعَاقُبِ بَيْعَيْنِ عَلَى الْمَعِيبِ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبُول الرَّدِّ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي حَصَل بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ تَمَّ بِالْقَضَاءِ بِإِقَامَةِ
_________
(١) مغني المحتاج ٢ / ٥٧، وشرح المنهج بحاشية الجمل ٣ / ١٤٣، تكملة المجموع ١٢ / ١٣٩ - ١٥٠، وأسهب كثيرًا في بيان الوجوه والتأويلات حتى تعذر استخلاص المذهب مما ذكره إلا عن طريق الكتب المؤلفة بعده والمعتمدة على ما فيه، ولم يتعرض الحنابلة لذلك كله؛ لأن الخيار عندهم على التراخي.
(٢) الهندية ٣ / ٦٦، نقلًا عن السراج الوهاج، تكملة المجموع ١٢ / ١٥٧، فتح القدير ٥ / ١٦٥.
الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ. أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ صُدُورُ إِقْرَارٍ مِنْهُ ثُمَّ إِنْكَارُهُ، فَيُقِيمُ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الإِْقْرَارِ (أَمَّا الإِْقْرَارُ الْمُبْتَدَأُ فَلاَ حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ أَصْلًا) فَفِي هَذِهِ الْحَال لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل فَيُخَاصِمَهُ وَيَفْعَل الإِْجْرَاءَاتِ الْوَاجِبَةَ لِرَدِّهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ قَبُول الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلرَّدِّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ بَل بِرِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ، لأَِنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - أَوْ كَمَا يُعَبِّرُونَ: فِي حَقِّ الثَّالِثِ - وَالْبَائِعُ الأَْوَّل هُنَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَفِي هَذِهِ الْحَال لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَلأَِنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلاَ يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل، وَلاَ يُقَال: إِنَّهُمَا بِالتَّرَاضِي عَلَى الرَّدِّ فَعَلاَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، لأَِنَّ الْحُكْمَ الأَْصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا نَقَلاَهُ إِلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، أَلاَ يُرَى أَنَّ الرَّدَّ إِذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ (١) .
٤١ - هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنَ
_________
(١) فتح القدير ٥ / ١٦٧ - ١٦٨.
الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَبْل قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ - كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ - أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا. قَال فِي الإِْيضَاحِ: (الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَيْبِ، فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنَ الْقَبْضِ، وَوِلاَيَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُل وَلِهَذَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ) (١) .
وَتَعَرَّضَ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل إِنْ عَادَ الْمَعِيبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (الثَّانِي) فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ حِينَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ. وَإِلاَّ كَانَ لَهُ رَدُّهُ. . سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي الأَْوَّل بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ (٢) .
الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ (أَوِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ) (٣)
٤٢ - هُنَاكَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ
_________
(١) فتح القدير ٥ / ١٦٨.
(٢) المغني ٤ / ٢٤٨.
(٣) الأرش: هو في اللغة دية الجراحات، وأصله من الفساد، يقال: أرّشت الحرب والنار إذا أوريتهما، والتأريش بين القوم: الإفساد بينهم، ولما كان نقصان الأعيان فسادًا فيها سمي نقصان الثمن: الأرش. وهو في الشرع عبارة عن الشيء المقدر الذي يحصل به الجبر عن الفائت والمغرب للمطرزي، والقاموس، تكملة المجموع للسبكي ١٢ / ١٦٧) .
نُقْصَانٍ أَوْ تَصَرُّفٍ تَمْنَعُ رَدَّ الْمَبِيعِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِل حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ إِلَى الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الْمُوجِبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُوجِبُ بَدِيلًا عَنِ الْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ (الَّذِي هُوَ الأَْصْل) أَمْكَنَ تَسْمِيَتُهُ (الْمُوجِبَ الْخَلَفِيَّ) وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لاَ يَجْتَمِعُ الْخَلَفُ وَالأَْصْل بَل يَتَعَاقَبَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل يُصَارُ إِلَى مَا هُوَ خَلَفٌ لَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ عَرَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا الْمُوجِبَ مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَجَال، فَالْمَالِكِيَّةُ حِينَ جَعَلُوا الْعُيُوبَ أَنْوَاعًا ثَلاَثَةً: الْعَيْبُ الْيَسِيرُ (لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ)، وَعَيْبُ الرَّدِّ (وَهُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ)، وَعَيْبُ الْقِيمَةِ، أَرَادُوا بِهَذَا الأَْخِيرِ الْعَيْبَ الْمُتَوَسِّطَ الَّذِي يُنْقِصُ مِنَ الثَّمَنِ، وَمُوجِبُ عَيْبِ الْقِيمَةِ أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ نَقْصِ الْعَيْبِ، فَمِثْل هَذَا النَّوْعِ نُقْصَانُ الثَّمَنِ هُوَ مُوجِبُهُ الأَْصْلِيُّ.
كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُثْبِتُونَ الْخِيَرَةَ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الإِْمْسَاكِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرَ
الرَّدُّ (١) . فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْخِيَارِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبٍ حَادِثٍ فَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَإِعْطَاءِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَهُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
طَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الأَْرْشِ (٢):
٤٣ - هِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِلاَ عَيْبٍ، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْعَيْبِ وَيُنْظَرُ إِلَى التَّفَاوُتِ وَتُؤْخَذُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقِيمَةِ هَل هُوَ عُشْرٌ أَوْ ثُمُنٌ أَوْ رُبْعٌ. . إِلَخْ. فَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ عُشْرَ الْقِيمَةِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِ الثَّمَنِ (٣) . وَهَكَذَا (٤) .
قَال صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَاضِي خَانْ
_________
(١) القوانين الفقهية ٢٥٨، وذكر أن هذا التقسيم في غير الحيوان، وأما فيه فيرد بكل ما يحط من القيمة. المغني ٤ / ١١١م ٣٠٠٣، كشاف القناع ٣ / ٢٢٤، الفروع ٤ / ١٠٦ بداية المجتهد ٢ / ١٧٧، المقدمات ٥٧٠، الخرشي ٤ / ٤٢، الحطاب والمواق ٤ / ٤٣٤، الدسوقي ٣ / ١١٤.
(٢) للأرش مباحث مفصلة في تكملة المجموع للسبكي ١٢ / ٢٦٥ - ٢٩٤ و١٢ / ٣٠٣ - ٣٠٩.
(٣) لما كانت الأثمان قديمًا هي الذهب والفضة وما شابهها، فقد تعرض بعض الفقهاء إلى أن الأرش هل يؤخذ من (عين الثمن) أو يدفعه البائع من حيث شاء؟ وللحنابلة فيه احتمالان، وصحح ابن نصر الله الاحتمال الثاني بترك الأمر للبائع، قال في تصحيح الفروع: وهو ظاهر كلام
(٤) فتح القدير ٦ / ١٢، الفتاوى الهندية ٣ / ٨٣، المغني ٤ / ١١١، تكملة المجموع ١٢ / ٢٦٥، وترتيب الأشباه والنظائر ٢٦٢.
وَلاَ الزَّيْلَعِيُّ وَلاَ ابْنُ الْهُمَامِ هَل الْقِيمَةُ (الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا النُّقْصَانُ) يَوْمَ الْعَقْدِ أَوِ الْقَبْضِ؟ وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهَا يَوْمَ الْعَقْدِ.
وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَال: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ قَال أَحْمَدُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. وَقَال فِي شَرْحِ الرَّوْضِ " هُوَ أَقَل قِيمَتَيْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ " (١) .
مَوَانِعُ الرَّدِّ:
٤٤ - تَنْقَسِمُ مَوَانِعِ الرَّدِّ إِلَى مَانِعٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْدِيٍّ.
أَوَّلًا - الْمَانِعُ الطَّبِيعِيُّ:
٤٥ - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الرَّدَّ، لِفَوَاتِ مَحَل الرَّدِّ، وَلاَ يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ يَحْمِل تَبِعَةَ الْهَلاَكِ قَبْل الْقَبْضِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَوْتَ مَحَل الرَّدِّ بِيَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَجْعَل مُوجِبَ الْخِيَارِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ
_________
(١) ترتيب الأشباه والنظائر ٢٦٢، المغني ٤ / ١١٢، شرح الروض ٢ / ٦٣، وتكملة المجموع ١٢ / ٢٧٢.
يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ لِيَحِل مَحَلَّهُ الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ (نُقْصَانُ الثَّمَنِ) .
وَيَسْتَوِي فِي الْهَلاَكِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِاسْتِهْلاَكِ الْمُشْتَرِي لَهُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْمَال وَالاِنْتِفَاعِ الْمَشْرُوعِ، لاَ الإِْتْلاَفِ، وَذَلِكَ بِأَكْل الطَّعَامِ أَوْ لُبْسِ الثَّوْبِ حَتَّى يَتَخَرَّقَ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي مَوَانِعِ الرَّدِّ دُونَ الأَْرْشِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ مِنَ الأَْكْل وَاللُّبْسِ حَتَّى انْتَهَى الْمِلْكُ بِهِ. وَلأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَقَدِ انْتَفَى الضَّمَانُ لِمِلْكِهِ فَكَانَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ الاِسْتِهْلاَكُ عَلَى بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الأَْكْل وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ مَا أَكَل (١) .
وَمِثْل الْهَلاَكِ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ: انْتِهَاءُ الْمِلْكِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْمَوْتِ، لأَِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْمِلْكُ لاَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا وَيَبْقَى لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ.
وَقَدْ سَوَّى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ هَلاَكِ
_________
(١) البدائع ٥ / ٢٨٣، فتح القدير ٥ / ١٦١ - ١٦٣، رد المحتار ٤ / ٨٢ - ٨٣، تبيين الحقائق ٤ / ٣٥، مغني المحتاج ٢ / ٥٤، الخرشي ٥ / ١٣٨، كشاف القناع ٢ / ٦٣.
الْمَعِيبِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُمَا، فَوَافَقُوهُمْ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْهَلاَكِ بِغَيْرِ الْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ، أَمَّا فِيهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ (١) . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالتَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِحَسَبِ الْهَلاَكِ بِالْعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ بَل بِحَسَبِ وُقُوعِ التَّدْلِيسِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ سَيِّئَ النِّيَّةِ وَدَلَّسَ الْعَيْبَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُدَلِّسَ الْبَائِعُ فَرُجُوعُهُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فَقَطْ. وَيَرْبِطُ الْمَالِكِيَّةُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِأَثَرِ الْعَمَل، فَلاَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ الْمُدَلَّسُ هُوَ الَّذِي أَوْدَى بِالْمَبِيعِ (٢) . وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْفَوْتِ وَيُقَسِّمُونَهُ إِلَى فَوْتٍ حِسِّيٍّ، وَفَوْتٍ حُكْمِيٍّ (٣) .
ثَانِيًا - الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ:
٤٦ - هَذَا الْمَانِعُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُول زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً (بَعْدَ الْقَبْضِ) أَوْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ (مُطْلَقًا، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ
_________
(١) البحر الرائق ٦ / ٣٩، فتح القدير ٥ / ١٦١، مغني المحتاج ٢ / ٥٤، المهذب ١ / ٢٩١، نهاية المحتاج ٤ / ٢٤.
(٢) المغني ٤ / ١٣٥، كشاف القناع ٣ / ١٨٠ " سواء تعيّب المبيع عند المشتري أو تلف بفعل الله كالمرض، أو بفعل المشتري مما هو مأذون شرعًا ".
(٣) الخرشي ٤ / ٤٨، الدسوقي على الشرح الكبير ٣ / ١٢٤.