الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٩
بَاطِنَةٍ، رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ (١)
هَذَا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَتَحْصُل فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ وَالْخَصْمَيْنِ. وَبِمَا أَنَّ تَزْكِيَةَ الْعَلاَنِيَةِ تُعْتَبَرُ شَهَادَةً، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا (٢) . أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَزْكِيَةٌ، وَشَهَادَةٌ) .
الْخِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ:
١١ - الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى قَاسِمٍ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ الشُّرَكَاءُ أَنْفُسُهُمْ إِذَا كَانُوا ذَوِي أَهْلِيَّةٍ وَمِلْكٍ وَوِلاَيَةٍ، فَيَقْسِمُونَ الْمَال بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ غَيْرُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ أَوْ يُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ (٣) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاسِمِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، لِيُوصِل إِلَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جِنْسِ عَمَل الْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِالأَْمَانَةِ وَالْعِلْمِ (٤) .
_________
(١) المراجع السابقة، ونهاية المحتاج ٨ / ٢٥٣، والمغني ٩ / ٦٣ - ٦٥.
(٢) المراجع السابقة.
(٣) الزيلعي ٥ / ٢٦٤.
(٤) الزيلعي ٥ / ٢٦٥
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْقَاسِمِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشُّرَكَاءُ، وَالَّذِي نَصَّبَهُ الإِْمَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مُتَعَدِّدًا، فَيَكْفِيَ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا وَاحِدًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَخِبْرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ طَرِيقَهُ الْخَبَرُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ لِلسِّلْعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ قَاسِمَانِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ (١)
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِيمَا خَصَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَهُوَ خَفِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ إِمْسَاكِ النَّصِيبِ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ النَّصِيبَانِ قَائِمَيْنِ رَجَعَا شَائِعَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَا قَبْل الْقِسْمَةِ. وَإِنْ فَاتَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِنَحْوِ صَدَقَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، أَوْ هَدْمٍ، رَدَّ آخِذُهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ، وَكَانَ النَّصِيبُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فَاتَا تَقَاصَّا (٢) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (قِسْمَةٌ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ) .
_________
(١) ابن عابدين ٥ / ١٦٣، والزيلعي ٥ / ٢٦٥، والخرشي ٦ / ١٨٥، ومغني المحتاج ٤ / ٤١٩، والمغني لابن قدامة ٩ / ١٢٥، ١٢٦.
(٢) فتح العلي المالك لمحمد عليش ٢ / ١٧٨.
الْخِبْرَةُ فِي الْخَارِصِ:
١٢ - الْخَرْصُ: الْحَزْرُ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّيْءِ (مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ) لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهِ. فَإِذَا بَدَا صَلاَحُ الثِّمَارِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَحَل بَيْعُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الإِْمَامُ مَنْ يَخْرُصُهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَرْصِ؛ لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَرِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَالْجَاهِل بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ عَدْلًا عَارِفًا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ (١) .
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فَيُعْمَل بِتَخْرِيصِ الأَْعْرَفِ مِنْهُمْ (٢) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ النَّخْل حَتَّى يَطِيبَ قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهُ.
(٣) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلاَ يَلْزَمُ بِهِ
_________
(١) الخرشي ٦ / ١٩٢، ١٩٣، ومغني المحتاج ١ / ٣٨٧، وحاشية الدسوقي ١ / ٤٥٤، وجواهر الإكليل ١ / ١٢٦، والمغني ٢ / ٧٠٦، ٧٠٧.
(٢) جواهر الإكليل ١ / ١٢٦.
(٣) حديث: " أن النبي ﷺ كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود. . . " أخرجه أبو داود (٢ / ٢٦٠ - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وفي إسناده جهالة. ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن عباس أخرجه أبو داود (١ / ٦٩٧ - ٦٩٨ تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
حُكْمٌ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْخَرْصِ. (١) وَقَالُوا: إِنَّ الْخَرْصَ الْوَارِدَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ مَا فِي نَخْلِهِمْ، ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَقْتَ الصِّرَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِيهَا. وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَل تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلاَّ يَخُونُوا لاَ لِيَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ (٢) . (ر: خَرْصٌ) .
خِبْرَةُ الْقَائِفِ:
١٣ - الْقَائِفُ مَنْ يَعْرِفُ الآْثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَل بِقَوْل الْقَائِفِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إِذَا كَانَ خَبِيرًا مُجَرَّبًا، وَلَمْ تُوجَدْ لإِثْبَاتِ نَسَبِ الطِّفْل بَيِّنَةٌ، أَوْ تَسَاوَتْ بَيِّنَةُ الطَّرَفَيْنِ (٣) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْخْذِ بِقَوْل الْقَائِفِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ ﷺ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَال: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَل عَلَيَّ فَرَأَى
_________
(١) حديث: " نهى عن الخرص ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ٤١ - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وفي إسناده ضعف.
(٢) المراجع السابقة، وعمدة القاري للعيني ٩ / ٦٨ - ٦٩.
(٣) الصحاح ولسان العرب مادة: (قوف) وتبصرة الحكام ٢ / ١٢٠، ونهاية المحتاج ٨ / ٣٥١، ومطالب أولي النهى ٤ / ٢٦٩.
أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. (١)
وَيَكْفِي قَائِفٌ وَاحِدٌ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ لأَِنَّهُ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجَرَّبًا فِي الإِْصَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ (٢) وَلأَِنَّهُ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ لَهُ وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ فِيهِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي كُلٍّ فَهُوَ مُجَرَّبٌ (٣) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ) .
الْخِبْرَةُ فِي التَّقْوِيمِ:
١٤ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَهْل الصَّنْعَةِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ
_________
(١) حديث عائشة: " يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ٥٦ - ط السلفية) ومسلم (٢ / ١٠٨٢ - ط الحلبي) .
(٢) حديث: " لا حكيم إلا ذو تجربة " أخرجه الترمذي (٤ / ٣٧٩ - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعفه المناوي في فيض القدير (٦ / ٤٢٤ - ط المطبعة التجارية) .
(٣) حاشية الزرقاني ٦ / ١١٠، وتبصرة الحكام ٢ / ١٢٠، ونهاية المحتاج ٨ / ٣٥١، وحاشية القليوبي ٤ / ٣٤٩، ومطالب أولي النهى ٤ / ٢٦٥، ٢٦٦، وكشاف القناع ٤ / ٢٣٩، ٢٤٠.
وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، وَقِيَمِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ الْمَأْجُورَةِ لإِثْبَاتِ الْعَيْبِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوِ الْغَرَرِ وَنَحْوِهَا. قَال فِي الدُّرِّ: لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ مَال الْيَتِيمِ ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ الْقَاضِي إِلَى أَهْل الْبَصِيرَةِ، أَيْ أَهْل النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (١) . وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا ذُكِرَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ أَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْخِبْرَةِ الْخَالَيْنِ عَنِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ سَالِمًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا كَانَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ (٢) .
وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى قَوْل التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَوْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ (٣) .
لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لأَِنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.
_________
(١) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار ٥ / ٤٥٩.
(٢) مجلة الأحكام العدلية المادة: (٢٤٦) .
(٣) تبصرة الحكام لابن فرحون ١ / ٢٣٢.
وَقَال أَيْضًا: يُقْبَل قَوْل الْمُقَوِّمِ الْوَاحِدِ لأَِرْشِ الْجِنَايَاتِ.
وَقَال الْخَرَشِيُّ: الْمُقَوِّمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْوِيمِهِ قَطْعٌ، أَوْ غُرْمٌ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَإِلاَّ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ. وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُرْجَعُ إِلَى أَهْل الْمَعْرِفَةِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ (١) .
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَنَقْصِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَتَقْوِيمُ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْل الصَّنْعَةِ. لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّقْوِيمَ لاَ يَكُونُ بِالْوَاحِدِ بَل يَحْتَاجُ إِلَى اثْنَيْنِ؛ لأَِنَّهُ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ (٢) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِهَا مِنَ الضَّمَانِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.
الْخِبْرَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ:
١٥ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَدِيمٌ لاَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.
وَمَعَ تَفْصِيلِهِمْ وَخِلاَفِهِمْ فِي وَضْعِ ضَابِطٍ لِلْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ: (الْعَيْبُ هُوَ مَا يُنْقِصُ ثَمَنَ
_________
(١) تبصرة الحكام ١ / ٢٣٢، ٢ / ٧١، والخرشي ٦ / ١٨٥.
(٢) مغني المحتاج ٣ / ٥٥ / ٧١، ٤ / ٤١٩، والمغني لابن قدامة ٩ / ١٢٩.
الْمَبِيعِ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ. وَنُقْصَانُ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ) . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (١) .
وَنَحْوُهُ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ اخْتِلاَفٍ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْقَوْل فِي نَفْيِ الْعَيْبِ أَوْ نَفْيِ قِدَمِهِ لِلْبَائِعِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ لِلْمُشْتَرِي.
وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْل أَهْل الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّخَّاسِينَ (٢) فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الْحَيَوَانَاتِ (٣) .
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ الطَّرَفَانِ فِي الْمَوْجُودِ هَل هُوَ عَيْبٌ أَوْ لاَ؟ أَوِ اخْتَلَفَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، رُجِعَ فِيهِ لأَِهْل الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ: هُوَ عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِلاَّ فَلاَ (٤) . يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
خِبْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ:
١٦ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الأَْطِبَّاءِ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَحْدِيدِ
_________
(١) مجلة الأحكام العدلية م (٣٣٨، ٣٤٦) وحاشية ابن عابدين ٤ / ٧٢، وتبيين الحقائق للزيلعي ٤ / ٣٢.
(٢) النخاس: بياع الدواب والرقيق (القاموس) .
(٣) جواهر الإكليل ٢ / ٤٨، وحاشية الدسوقي ٣ / ١٣٦، وانظر تبصرة الحكام ١ / ٢٣١، ٢ / ٧٢.
(٤) حاشية الجمل ٣ / ١٤٨، وكشاف القناع ٤ / ٢٤.
أَسْمَائِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، وَالدَّامِيَةِ، وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل الْبَيَاطِرَةِ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ. وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ النُّصُوصِ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَجَال:
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْل الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُول الْجُرْحِ، وَعُمْقِهِ، وَعَرْضِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْل ذَلِكَ وَلاَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (١) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا اخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ هَل هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لاَ، أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالآْمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الأَْطِبَّاءُ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الأَْطِبَّاءُ أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، يُؤْخَذُ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ إِذَا وُجِدَا، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْل الصَّنْعَةِ (٢) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مَوَاضِعِهَا (ر: شَهَادَةٌ، شِجَاجٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ) .
عَدَدُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
١٧ - الأَْصْل أَنَّ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى
_________
(١) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك ٢ / ٧١.
(٢) المغني لابن قدامة ٩ / ٢٧٠.
جِهَةِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ فِيهِ اثْنَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الإِْخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَهْل الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُيُوبِ، وَمِنْهُمُ الطَّبِيبُ وَالْبَيْطَارُ، وَالْخَارِصُ، وَالْقَائِفُ، وَالْقَسَّامُ، وَقَائِسُ الشِّجَاجِ وَنَحْوُهُمْ (١) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قَوْل الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قَال ابْنُ فَرْحُونَ: الْقِيمَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَمْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ. وَقَال نَقْلًا عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ (٢) .
وَقَال: وَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَال، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.
وَمِثْلُهُ مَا قَال فِي قَائِسِ الْجِرَاحِ مِنَ الاِكْتِفَاءِ بِقَوْل الْوَاحِدِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.
وَجَاءَ فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: مَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ - فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْل الْبَصَرِ إِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلًا يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي الْخُصُومَةِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْل الْقَائِفِ
_________
(١) معين الحكام ص ١١٥، وتبصرة الحكام ١ / ٢٢٩، ٢٣٢، والخرشي ٦ / ١٨٥، وابن سلمون على تبصرة الحكام ١ / ٢٢٨، ٢٢٩، ومغني المحتاج ١ / ٣٨٧، والمغني ٢ / ٧٠٧ و٩ / ١٢٦، ٢٧٠.
(٢) تبصرة الحكام ١ / ٢٣٢.