الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨ الصفحة 2

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨

مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَحْكُومَ فِيهِ) هُوَ الْفِعْل الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ. فَلاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ حِسًّا، أَيْ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ، بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْل، إِذِ الْخِطَابُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِمَا لاَ يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ أَصْلًا.

وَأَكَّدَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْل، فَقَال: (١) حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ مُتَعَلَّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ عِبَادَتِهِ، لاَ نَفْسُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، لأَِمْرَيْنِ:

الأَْوَّل: قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (٢)، وَقَوْل الرَّسُول ﷺ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ مَعْنَاهُ: اللاَّزِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَاللاَّزِمُ عَلَى الْعِبَادِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ كَلاَمُهُ، وَكَلاَمُهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ.

وَحَقُّ الْعَبْدِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل: حَقُّهُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ بِوَعْدِهِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَيُخَلِّصَهُ مِنَ النَّارِ. وَالثَّانِي: حَقُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الأَْمْرُ الَّذِي تَسْتَقِيمُ بِهِ أُولاَهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ. وَالثَّالِثُ: حَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِ

_________

(١) تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية ١ / ١٥٧.

(٢) سورة الذاريات / ٥٦.

مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ.

وَفِي هَذَا تَأْيِيدٌ لاِبْنِ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ. لاَ الأَْمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا.

٥ - وَقَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ حُقُوقَ الْعِبَادِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

١ - حَقُّ الْمِلْكِ

٢ - حَقُّ التَّمَلُّكِ كَحَقِّ الْوَالِدِ فِي مَال وَلَدِهِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ.

٣ - حَقُّ الاِنْتِفَاعِ كَوَضْعِ الْجَارِ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ جَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ.

٤ - حَقُّ الاِخْتِصَاصِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُول وَالْمُعَاوَضَاتِ مِثْل مَرَافِقِ الأَْسْوَاقِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ.

٥ - حَقُّ التَّعَلُّقِ لاِسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِثْل تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ. (١)

الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

٦ - الْمُرَادُ بِالْحَقِّ غَالِبًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُل. (٢)

_________

(١) قواعد ابن رجب / ١٨٨ - ١٩٥، وانظر الدرر شرح الغرر لملا خسرو ٢ / ١٤٤.

(٢) البحر الرائق ٦ / ١٤٨.

وَإِطْلاَقَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلْحَقِّ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَمُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا:

١ - إِطْلاَقُ الْحَقِّ عَلَى مَا يَشْمَل الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِيَّةِ، مِثْل قَوْلِهِمْ: مَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ، لأَِنَّهُ حَقُّهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، فَيَمْلِكُ تَأْجِيلَهُ.

٢ - الاِلْتِزَامَاتُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ - غَيْرُ حُكْمِهِ - وَتَتَّصِل بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ.

مِثْل: تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَال أَوَّلًا ثُمَّ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، لأَِنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّأْجِيل، فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الآْخَرِ. (١)

٣ - الأَْرْزَاقُ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، مِثْل قَوْل ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَتِهِمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ يُفْرَضُ لأَِوْلاَدِهِمْ تَبَعًا، وَلاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الأَْصْل تَرْغِيبًا. (٢)

٤ - مَرَافِقُ الْعَقَارِ، مِثْل: حَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيل، وَحَقِّ الشُّرْبِ.

_________

(١) الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي الحنفي - تحقيق وتعليق الدكتور محمد طموم ٢ / ١٢، ١٤.

(٢) لأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٢١ تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد مد الوكيل طبعة الحلبي بالقاهرة ١٣٨٧ هـ - ١٩٦٨ م.

٥ - الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ، مِثْل: حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَحَقِّ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجِ.

مَصْدَرُ الْحَقِّ:

٧ - مَصْدَرُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَنْظِيمِ حَيَاةِ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونُوا سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. وَكَانَ يُمْكِنُ أَلاَّ يَجْعَل اللَّهُ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّل عَلَى عِبَادِهِ فَجَعَل لِلشَّخْصِ حُقُوقًا تُؤَدَّى لَهُ، وَكَلَّفَهُ بِأَدَاءِ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلآْخَرِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ وَبَلَّغَهُ مَا لَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِالشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ.

فَمَا أَثْبَتَتْهُ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ حَقًّا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَال اللَّهُ ﷿: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾ (١) وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُقُوقُ هِيَ أَثَرُ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَال الشَّاطِبِيُّ (٢): إِنَّ كُل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَال أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلاَقٍ.

_________

(١) سورة الأنعام / ٥٧.

(٢) الموافقات في أصول الشريعة ٢ / ٣١٧ وما بعدها.

فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلاَقٍ، بَل جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الأَْحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا أَنَّ كُل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ ﵁ قَال: فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: يَا مُعَاذُ، هَل تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَال: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا (١) .

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ كُل الْحُقُوقِ حَتَّى حَقَّ الْعَبْدِ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، فَقَال: كُل تَكْلِيفٍ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أ - مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ.

ب - وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَلاَّ يَجْعَل لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، إِذِ الأَْشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الأَْوَّل مُتَسَاوِيَةٌ، لاَ قَضَاءَ لِلْعَقْل فِيهَا بِحُسْنٍ وَلاَ قُبْحٍ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَل الشَّارِعِ، بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْل، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ. (٢)

_________

(١) حديث: " فقال رسول الله ﷺ يا معاذ هل تدري حق الله. . . " تقدم تخريجه ف / ٣.

(٢) الموافقات ٢ / ٣١٧ وما بعدها.

٨ - أَرْكَانُ الْحَقِّ هِيَ:

أ - صَاحِبُ الْحَقِّ، وَهُوَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الشَّخْصُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ، كَالزَّوْجِ بِاعْتِبَارِهِ صَاحِبَ حَقٍّ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالنِّسْبَةِ لِطَاعَتِهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلاَ يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْحَقِّ أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَلِذَا لاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ إِسْقَاطَ حَقِّهِ تَعَالَى.

ب - مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ بِالأَْدَاءِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا كَمَا فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، أَمْ جَمَاعَةً كَمَا فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَثَلًا.

ج - مَحِل الْحَقِّ أَيْ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ، كَالْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَال حَقِيقَةٌ، كَالْقَدْرِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ مُعَجَّل الصَّدَاقِ أَوْ حُكْمًا، كَالْقَدْرِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الْمَهْرِ لأَِقْرَبِ الأَْجَلَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الدُّيُونِ. وَالاِنْتِفَاعُ، كَحِل الاِسْتِمْتَاعِ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ. وَالْعَمَل، مِثْل: مَا تَقُومُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا. وَالاِمْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، مِثْل: عَدَمِ فِعْل الزَّوْجَةِ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ أَوْ يُغْضِبُ الزَّوْجَ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ شَرْعًا إِلاَّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَلاَ يَكُونُ حَقًّا،

وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمُطَالَبَةُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، مِثْل: تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مَشْرُوعٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا دَائِمًا فِي كُل وَقْتٍ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي حَال الْحَيْضِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى فَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (١) .

أَقْسَامُ الْحَقِّ

: ٩ - يُقَسَّمُ الْحَقُّ إِلَى تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.

بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ، وَبِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ، وَبِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الإِْسْلاَمِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ إِسْقَاطِهِ لَهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ خُلُوِّ كُل حَقٍّ مِنْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ التَّامِّ وَالْحَقِّ الْمُخَفَّفِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُحَدَّدِ وَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَيَّرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ،

_________

(١) سورة البقرة / ٢٢٢.

وَبِاعْتِبَارِ مَا يُورَثُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ يُورَثُ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَغَيْرِ الْمَالِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الدِّيَانِيِّ وَالْقَضَائِيِّ، أَوِ الدُّنْيَوِيِّ وَالأُْخْرَوِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَرْجِعُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ. (١)

أَوَّلًا: بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ:

١٠ - يُقَسَّمُ الْحَقُّ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: لاَزِمٌ، وَجَائِزٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ. (٢)

النَّوْعُ الأَْوَّل: الْحَقُّ اللاَّزِمُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ، فَإِذَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوْجَدَ فِي مُقَابِلِهِ وَاجِبًا، وَقَرَّرَ هَذَا الْوَاجِبَ عَلَى الآْخَرِينَ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، فَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ فِي الْمُقَابِل قَدْ وُجِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، دُونَ تَخَلُّفِ أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَهُمَا مُتَلاَزِمَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الآْخَرِ، كَحَقِّ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَجِبُ، فَمِثْلًا: حَقُّ الْحَيَاةِ حَقٌّ لِكُل شَخْصٍ، وَيَجِبُ عَلَى الآْخَرِينَ - أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا - أَنْ يَحْتَرِمُوا هَذَا الْحَقَّ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُمُ الاِعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ حِرْمَانُهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلاَ يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمِلْكِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ.

_________

(١) انظر كشف الأسرار ٣ / ١٥٧.

(٢) الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٤٣ و٢٤٤.

وَإِذَا كَانَ لأَِصْحَابِ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقٌّ، وَيَجِبُ عَلَى الآْخَرِينَ عَدَمُ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِهَؤُلاَءِ الآْخَرِينَ حَقًّا فِي عَدَمِ الإِْضْرَارِ بِهِمْ عِنْدَ اسْتِعْمَال هَذِهِ الْحُقُوقِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْحَقُّ الْجَائِزُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ حَتْمٍ، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الإِْبَاحَةِ. مِثَالُهُ أَمْرُ الْمُحْتَسِبِ بِصَلاَةِ الْعِيدِ، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: هَل يَكُونُ الأَْمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلاَفِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، هَل هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنْ قِيل: إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الأَْمْرُ بِهَا نَدْبًا، وَإِنْ قِيل: إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الأَْمْرُ بِهَا حَتْمًا. (١)

ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ: (٢)

١١ - قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

حُقُوقُ اللَّهِ الْخَالِصَةُ، حُقُوقُ الْعِبَادِ

_________

(١) الاختيار لتعليل المختار تحقيق الدكتور محمد طموم ١ / ٢٢٩، الهداية للمرغيناني ٣ / ٢٢٧ - ٢٢٩، وفتح القدير لابن الهمام ٢ / ٨٥ - ٨٧، الشرح الصغير للدردير وشرحه بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ الصاوي ١ / ٢٤٨ طبعة الحلبي ١٣٧٢ هـ - ١٩٥٢ والمغني لابن قدامة ٦ / ٢٩٤ - ٢٩٧.

(٢) اجع كشف الأسرار ٤ ٤؟ / ١٣٤، ١٣٥، والتلويح على التوضيح لمتن التنقيح ١ / ١٥٠، ١٥١ طبعة صبيح.

الْخَالِصَةُ، مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنْ حَقُّ اللَّهِ غَالِبٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ لَكِنْ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ.

الْقَسَمُ الأَْوَّل: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ:

١٢ - حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلاَ يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَجْمُوعِ الأَْفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَذَا الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يُخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلاَمَةِ الأَْنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لأَِنَّ اللَّهَ ﷿ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ، لأَِنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْكُل.

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لأَِنَّ الْكُل سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، بَل الإِْضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُل سَوَاءٌ فِي الإِْضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَال ﷿: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَْرْضِ﴾ (١)

_________

(١) سورة النجم / ٣١.