الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٧
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا (١) .
ب - الْمَعْقُول: وَذَلِكَ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجِبٌ، وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ الأُْولَى فَقَدْ يَمْتَدُّ بِهِ الْعُمُرُ وَقَدْ يَمُوتُ فَيَفُوتُ الْفَرْضُ، وَتَفْوِيتُ الْفَرْضِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ احْتِيَاطًا.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الأَْمْرَ بِالْحَجِّ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ (٢) مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، فَلاَ يَثْبُتُ الإِْلْزَامُ بِالْفَوْرِ، لأَِنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلنَّصِّ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلاَفِ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لِلتَّرَاخِي (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: أَمْرٌ) .
ب - (أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَتَحَ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلاَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَتَخَلَّفْ رَسُول اللَّهِ ﷺ عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ) (٣) .
_________
(١) (١) حديث: " من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله. . . " أخرجه الترمذي (٣ / ١٦٧ - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث ".
(٢) سورة آل عمران ٩٧.
(٣) الأم ٢ / ١١٨، وانظر حاشية القليوبي على شرح المنهاج ٢ / ٨٤، وبدائع الصنائع للكاساني ٢ / ١١٩.
فَضْل الْحَجِّ:
٦ - تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى الإِْشَادَةِ بِفَضْل الْحَجِّ، وَعَظَمَةِ ثَوَابِهِ وَجَزِيل أَجْرِهِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ. . .﴾ (١) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (٢) .
وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ. . . (٣) وَمَعْنَى يَدْنُو: يَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ
_________
(١) سورة الحج / ٢٧ - ٢٨.
(٢) حديث: " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع. . . " أخرجه البخاري (الفتح ٣ / ٣٨٢ - ط السلفية) . ومسلم (٢ / ٩٨٣، ٩٨٤ - ط الحلبي) .
(٣) حديث: " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه. . . " أخرجه مسلم (٣ / ٩٨٣ - ط الحلبي) .
الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ (١) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ (٢) .
وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂، قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَل الْعَمَل أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَال: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَل الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ (٣) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ سُئِل: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: إِيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيل ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: جِهَادٌ فِي سَبِيل اللَّهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ (٤) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ:
٧ - شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ لإِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ
_________
(١) حديث: " تابعوا بين الحج والعمرة. . . . " أخرجه الترمذي (٣ / ١٦٦ - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(٢) حديث: " الحجاج والعمار وفد الله. . . " أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٦٦ - ط الحلبي)، وقال البوصيري: " في إسناده صالح بن عبد الله، قال البخاري فيه: منكر الحديث ". ولكن له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن ماجه تلو حديث أبي هريرة، يتقوى به.
(٣) حديث عائشة: " نرى الجهاد أفضل الأعمال. . . " أخرجه البخاري (الفتح ٣ / ٣٨١ - ط السلفية) والنسائي (٥ / ١١٤ - ط المكتبة التجارية) .
(٤) حديث أبي هريرة: " سئل أي الأعمال أفضل؟ . . . . " أخرجه البخاري (الفتح ٣ / ٣٨١ - ط السلفية) ومسلم (١ / ٨٨ - ط الحلبي) .
وَمَدَى امْتِثَالِهِ لأَِمْرِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَهَا فَوَائِدُ تُدْرِكُهَا الْعُقُول الصَّحِيحَةُ وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ.
وَتَشْتَمِل هَذِهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى حِكَمٍ جَلِيلَةٍ كَثِيرَةٍ تَمْتَدُّ فِي ثَنَايَا حَيَاةِ الْمُؤْمِنَ الرُّوحِيَّةِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِنْهَا:
أ - أَنَّ فِي الْحَجِّ إِظْهَارَ التَّذَلُّل لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّرَفِ وَالتَّزَيُّنِ، وَيَلْبَسُ ثِيَابَ الإِْحْرَامِ مُظْهِرًا فَقْرَهُ لِرَبِّهِ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَوَاغِلِهَا الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنِ الْخُلُوصِ لِمَوْلاَهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِمَغْفِرَتِهِ وَرُحْمَاهُ، ثُمَّ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ ضَارِعًا لِرَبِّهِ حَامِدًا شَاكِرًا نَعْمَاءَهُ وَفَضْلَهُ، وَمُسْتَغْفِرًا لِذُنُوبِهِ وَعَثَرَاتِهِ، وَفِي الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يَلُوذُ بِجَنَابِ رَبِّهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمِنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَوِسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.
ب - أَنَّ أَدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَال، وَسَلاَمَةِ الْبَدَنِ، وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَفِي الْحَجِّ شُكْرُ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، حَيْثُ يُجْهِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ " وَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ شُكْرَ النَّعْمَاءِ وَاجِبٌ تُقَرِّرُهُ بَدَاهَةُ الْعُقُول، وَتَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الدِّينِ.
ج - يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقْطَارِ الأَْرْضِ فِي
مَرْكَزِ اتِّجَاهِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَهْوَى أَفْئِدَتِهِمْ، فَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَأْلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هُنَاكَ حَيْثُ تَذُوبُ الْفَوَارِقُ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَارِقُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَوَارِقُ الْجِنْسِ وَاللَّوْنِ، فَوَارِقُ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ، تَتَّحِدُ كَلِمَةُ الإِْنْسَانِ فِي أَعْظَمِ مُؤْتَمَرٍ بَشَرِيٍّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَصْحَابِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، هَدَفُهُ الْعَظِيمُ رَبْطُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِأَسْبَابِ السَّمَاءِ.
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:
٨ - شُرُوطُ الْحَجِّ صِفَاتٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الإِْنْسَانِ لِكَيْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الْحَجِّ، مَفْرُوضًا عَلَيْهِ، فَمَنْ فَقَدَ أَحَدَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلاَ يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ خَمْسَةٌ هِيَ: الإِْسْلاَمُ، وَالْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالاِسْتِطَاعَةُ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَال الإِْمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلاَفًا " (١) .
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
٩ - أ - لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، بَل هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ.
_________
(١) المغني ٣ / ٢١٨، وكذا ذكر الإجماع الرملي في نهاية المحتاج ٢ / ٣٧٥.
ب - وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهَا (١) .
ج - وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُطَالَبُ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخِرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، هَل يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ أَوْ لاَ يُؤَاخَذُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الأُْصُولِيِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
١٠ - يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْل، لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ، بَل لاَ تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ، فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ (٢) .
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (٣) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
١١ - يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ
_________
(١) نهاية المحتاج الموضع السابق.
(٢) المغني لابن قدامة ٣ / ٢١٨، البدائع ٢ / ١٢٠.
(٣) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ. . . . " أخرجه أبو داود (٤ / ٥٥٩ - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (٤ / ٣٨٩ - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
بِمُكَلَّفٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ (١) .
فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِيهِ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِل، وَإِذَا عَقَل فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الأَْعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى (٢) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْحُرِّيَّةُ:
١٢ - الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لأَِنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ وَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لاَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لاَ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
_________
(١) حديث ابن عباس: " رفعت امرأة صبيا. . . ". أخرجه مسلم (٢ / ٩٧٤ - ط الحلبي) .
(٢) حديث: " إذا حج الصبي فهي له حجة. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (١ / ٤٨١ - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الاِسْتِطَاعَةُ:
١٣ - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ خِصَال الاِسْتِطَاعَةِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (١) .
وَخِصَال الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ قِسْمَانِ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ:
شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ:
الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.
الْخَصْلَةُ الأُْولَى:
١٤ - تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَالنَّفَقَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِمَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ.
قَال فِي " الْهِدَايَةِ ": وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا الرَّاحِلَةُ لأَِنَّهُ لاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الأَْدَاءِ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إِلَى الْجُمُعَةِ " (٢) .
_________
(١) سورة آل عمران / ٩٧.
(٢) الهداية مع فتح القدير ٢ / ١٢٧.
وَالأَْظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ هُوَ: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، أَمَّا مَا دُونَهُ فَلاَ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ " (١) يَعْنِي مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ. وَتُقَدَّرُ بِ (٨١) كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَهُمْ. وَتُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ بِنَحْوِ الْمَسَافَةِ السَّابِقَةِ (٢) .
١٥ - وَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطِيَّةِ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ. لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " وَهِيَ الْجَمَل الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ لأَِنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي زَمَانِهِمْ. وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ الزَّادَ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (٣) .
_________
(١) حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار ٢ / ١٩٥.
(٢) نهاية المحتاج للرملي ٢ / ٣٧٧، وحاشية الباجوري ١ / ٥٢٦، والمغني لابن قدامة ٣ / ٢٢١.
(٣) سورة آل عمران / ٩٧.
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ " مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ " (١) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ فَسَّرَ السَّبِيل بِاسْتِطَاعَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مِثْل حَدِيثِ أَنَسٍ: قِيل يَا رَسُول اللَّهِ مَا السَّبِيل؟ قَال: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ (٢) .
فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الاِسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ " بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا " وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لاَ تَكْفِي لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ " (٣) .
الأَْمْرُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّادِ وَوَسَائِل الْمُوَاصَلَةِ هَل يُشْتَرَطُ مَلَكِيَّةُ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُحَصِّلُهَا بِهِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِلْكَ مَا يُحَصِّل بِهِ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل (مَعَ مُلاَحَظَةِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ
_________
(١) مختصر خليل والشرح الكبير ٢ / ٦، ومواهب الجليل ٢ / ٤٩١، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن المالكي ١ / ٤٥٥، وانظر تفسير القرطبي ٤ / ١٤٦ - ١٤٩.
(٢) حديث أنس: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ أخرجه الحاكم (١ / ٤٤٢ - ط دائرة المعارف العثمانية) والبيهقي (٤ / ٣٣٠ - ط دائرة المعارف العثمانية)، أعله البيهقي بالإرسال. ونقل ابن حجر في الفتح (٣ / ٣٧٩ - ط السلفية) عن ابن المنذر أنه قال: " لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ".
(٣) بدائع الصنائع ٢ / ١٢٢.