الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١ -
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا لَمْ تَأْتِ بِمَا تَرْفُضُهُ الْعُقُول، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِمَا لاَ تُدْرِكُهُ الْعُقُول، وَشَتَّانَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، فَالإِْنْسَانُ إِذَا اقْتَنَعَ - عَقْلِيًّا - بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِلرُّبُوبِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَاقْتَنَعَ - عَقْلِيًّا - بِمَا شَاهَدَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالأَْدِلَّةِ، بِصِدْقِ الرَّسُول ﷺ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ قَدْ أَقَرَّ لِلَّهِ ﷾ بِالْحَاكِمِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا مَا أُمِرَ بِأَمْرٍ، أَوْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَال: لاَ أَمْتَثِل حَتَّى أَعْرِفَ الْحِكْمَةَ فِيمَا أُمِرْتُ بِهِ أَوْ نُهِيتُ عَنْهُ، يَكُونُ قَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي دَعْوَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ لِلْعُقُول حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِدْرَاكُهَا، كَمَا أَنَّ لِلْحَوَاسِّ حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ لاَ تَتَجَاوَزُهُ.
وَمَا مَثَل الْمُتَمَرِّدِ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبُّدِيَّةِ إِلاَّ كَمَثَل مَرِيضٍ ذَهَبَ إِلَى طَبِيبٍ مَوْثُوقٍ بِعِلْمِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَوَصَفَ لَهُ أَنْوَاعًا مِنْ الأَْدْوِيَةِ، بَعْضَهَا قَبْل الأَْكْل وَبَعْضَهَا أَثْنَاءَهُ وَبَعْضَهَا بَعْدَهُ، مُخْتَلِفَةَ الْمَقَادِيرِ، فَقَال لِلطَّبِيبِ: لاَ أَتَعَاطَى دَوَاءَكَ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِ هَذَا قَبْل الطَّعَامِ وَهَذَا بَعْدَهُ، وَهَذَا أَثْنَاءَهُ، وَلِمَاذَا تَفَاوَتَتِ الْجَرْعَاتُ قِلَّةً وَكَثْرَةً؟
فَهَل هَذَا الْمَرِيضُ وَاثِقٌ حَقًّا بِطَبِيبِهِ؟ فَكَذَلِكَ مَنْ يَدَّعِي الإِْيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَتَمَرَّدُ عَلَى الأَْحْكَامِ الَّتِي لاَ يُدْرِكُ حِكْمَتَهَا، إِذْ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ إِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ يَقُول: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ، وَلاَ سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحْكَامٌ تَرْفُضُهَا الْعُقُول السَّلِيمَةُ، فَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ، فَكَمْ مِنْ أَحْكَامٍ خَفِيَتْ عَلَيْنَا حِكْمَتُهَا فِيمَا مَضَى ثُمَّ انْكَشَفَ لَنَا مَا فِيهَا مِنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، فَقَدْ كَانَ خَافِيًا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا مَا يَحْمِلُهُ هَذَا الْحَيَوَانُ الْخَبِيثُ مِنْ أَمْرَاضٍ وَصِفَاتٍ خَبِيثَةٍ، أَرَادَ اللَّهُ ﷾ أَنْ يَحْمِيَ مِنْهَا الْمُجْتَمَعَ الإِْسْلاَمِيَّ. وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الأَْمْرِ بِغَسْل الإِْنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَكْشِفُ الأَْيَّامُ عَنْ سِرِّ تَشْرِيعِهَا وَإِنْ كَانَتْ خَافِيَةً عَلَيْنَا الآْنَ.